الحمد لله الذي جعل العلم ميراث الأنبياء، وجعل ورثته هم العلماء، الذين هم أكثر الناس خشية لربهم وأعرفهم به، ولذلك شرفهم ربهم بأرفع المقامات، وأعلى الدرجات، نحمده سبحانه أن جعل العلم سبيل العارفين، ومنار السالكين، ونوراً وهدى للعالمين، وهادياً إلى الحق وإلى صراط المستقيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وصف نفسه بالعلم، فقال وهو أصدق القائلين: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، معلم الناس الخير من بعثه الله بالعلم والهدى والنور رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن خير ما صرفت فيه الجهود، ووقفت لأجله الأعمار، هو خدمة كتاب الله عز وجل، تفسيراً وشرحاً وبياناً وإيضاحاً، ولهذا أفنى جهابذة من العلماء أعمارهم في خدمة كتاب الله، فنعم ما صنعوا، فتفننوا في تنويع علومه، فمنهم من اهتم ببديعه وبيانه وبلاغته وفصاحته، ومنهم من اهتم بأسلوبه وتركيبه وأوزانه وإعرابه، ومنهم من اهتم بأحكامه، وتشريعاته وحلاله وحرامه، ومنهم من اهتم بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه ومقيده ومفصله ومجمله، ومنهم من اهتم بقصصه وأخباره وعبره وعظاته، ومنهم من اهتم بجوانبه الاجتماعية والتربوية، فعالج من خلال القرآن الكريم واقعة، ومع هذا، فالقرآن لا يَخْلَقُ مع كثرة الرد، لكونه المعجزة الخالدة لكل الدهور والأزمان، فعلومه غير متناهية، وفيه من العلوم ما يناسب كل عصر و يلائم كل مصر.ولو تأملنا قليلاً لوجدنا أن القرآن الكريم واللغة العربية وجهان لعملة واحدة حيث تقوم بينهما علاقة أوضح من أن تناقش. فالقرآن نزل باللغة العربية وحملها على أن تتجاوز حدودها وعرفها على الأئمة عبر القارات والثقافات. أما اللغة العربية فقد أعطت بدورها للقرآن الكريم بعدا لغويا لم يسبقه أي مثيل ومثلت أداة مثلى ينطق بها.
هذه العلاقة التبادلية بين القرآن واللغة العربية تفرض أن تلجأ أي دراسة قرآنية إلى الإلمام المستفيض بعلوم اللغة العربية. كما تفرض أن تستند أي دراسة لغوية عربية إلى القرآن الكريم في المقام الأول.
واللغة العربية التي ينطق بها القرآن الكريم تتميز بل تنفرد بخصائص لا تتمتع بها غيرها من اللغات مما يؤكد كونها لغة كتاب الله. ومن ذلك أنها تمتع بمرونة دلالية سواء كانت على مستوى الكلمات أو على مستوى التراكيب. هذه المرونة من جانب تتمشى مع عالمية القيم القرآنية التي لا تتقيد بحدود المكان والزمان. إلا أنها من جانب آخر تمثل تحديا لغويا كبيرا أمام أي محاولة لفهم القرآن حيث يتعذر على أحد أن يفهم القرآن الكريم فهما مستفيضا إلا بالإلمام العميق بتلك الخصائص اللغوية. وهذا بدون شك ليس بالأمر التافه، فلقد أثبت التاريخ أن الاختلاف بين الأئمة مما يترتب على الاختلاف في فهم الجوانب اللغوية من القرآن الكريم.
وقد أحببت أن أسلك سبيل هؤلاء العلماء، مع ضعف قوتي، ووهن عضدي، وقلة زادي، لكن لأجل النفع والانتفاع من هذه العلوم القيّمة...