هل نؤمن بعذاب القبر ، وبالحوض والميزان وأمثال ذلك من
الأمور الاعتقادية ؟ وما الذي يجعلنا نؤمن بذلك أو ننفيه ؟
1- يرى علماء السلف الصالح أنّ كلّ ما أخبرنا الله به ،
أو أخبرنا به رسوله صلى الله عليه وسلم ، ووصل إلينا بطريق صحيح ، يجب
الإيمان به وتصديقه . وهم لا يفرقون بين الخبر المتواتر وخبر الآحاد
(2) ، إذا كان صحيحاً ، بل يثبتون العقائد
بهما من غير تفريق .
ويستدلون على ذلك بالأدلة العامة التي تأمرنا بتصديق
الله ورسوله فيما أخبرا به وطاعتهما فيما أمرا به مثل قوله تعالى : (
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً
أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) [ الأحزاب : 36 ] وقوله : (
قل أطيعوا الله والرسول ) [ آل عمران : 32 ] .
2- واحتجّت طائفة ممن ضعف معرفتها بالصحيح والضعيف من
أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالأحاديث الموضوعة والضعيفة
(3) في هذا الباب ومن أمثال هذه الأحاديث
الضعيفة والموضوعة :
حديث (( انتهيت إلى ربي ليلة
أسري بي إلى السماء ، فرأيتُ ربي ، بيني وبينه حجاب بارزٌ ، فرأيت كل شيء
منه ، حتى رأيت تاجاً مخوصاً من اللؤلؤ )) . حديث موضوع .
(4)
حديث : ( إنّ الله يَجلسُ على
القَنطرةِ الوسْطى بين الجنة والنار ) . (5)
ويجب التحقق من الأحاديث قبل الاحتجاج بها سواء في
العقيدة أو الأحكام ، وإلا فإنّ النتيجة أنْ ننسب إلى دين الله ما ليس منه
، ونقرر أموراً اعتقادية باطلة .
ومثل الذين يثبتون العقائد بالأحاديث الضعيفة والموضوعة
أولئك الذين يثبتونها بالمنامات والخرافات والأساطير .
3- ورفضت طائفة ثالثة الاحتجاج بالأدلة النقلية أي
بالنصوص القرآنية والحديثية في إثبات العقائد ، وقد زعموا أنّ (( الأدلة
النقلية لا تفيد اليقين ، ولا تحصل الإيمان المطلوب ، ولا تثبت بها عقيدة
)) (6) ، وعللوا عدم إفادتها اليقين (( بأنّ
الأدلة النقلية مجال واسع لاحتمالات كثيرة تحول دون هذا الإثبات )) .
(7)
وهذا قول متهافت لا يحتاج أن يتعب الناظر نفسه في الردّ
عليه ، إذ هو مخالف لإجماع الأمة ، وإذا كانت النصوص مجالاً واسعاً
للاحتمال فكيف يكون كلام البشر ؟ وكيف لا تثبت العقائد بكلام الله ورسوله ؟
سبحانك هذا بهتان عظيم .
4- وذهب فريق رابع إلى رفض الاحتجاج بأحاديث الآحاد
الصحيحة في باب العقائد ، فلا يحتجون إلا بالقرآن أو المتواتر من الأحاديث
، ولا يثبتون العقيدة بالقرآن ، والحديث المتواتر إلا إذا كان النصّ قطعي
الدلالة (8) ، وإذا لم يكن النص قطعي الدلالة
فإنّه لا يجوز الاحتجاج به عندهم .
قال بذلك علماء الكلام قديماً ، وتابعهم بعض علماء
الأصول ، وقد انتشر هذا القول في أيامنا ، حتى كاد ينسى القول الحقّ ،
ويستغرب من قائله . والعلماء قديماً وحديثاً كانوا ولا يزالون يبينون فساد
هذا القول وخطورته ويكشفون شبهة القائلين به .
توضيح شبهة هؤلاء (9)
:
بيّنا أنَّ شبهة هؤلاء زعمهم أنّ أدلة العقائد لا بدَّ
أن تفيد اليقين ، وأحاديث الآحاد والنصوص القرآنية والأحاديث المتواترة إذا
كانت دلالتهما غير قطعية لا تفيد اليقين ، بل هي ظنية ، والظنّ لا يجوز أن
يحتج به في هذا المجال لقوله تعالى : ( إن يتبعون
إلا الظن وما تهوى الأنفس ) [ النجم : 23 ] ، ولقوله : (
وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ) [ النجم :
28 ] ونحو ذلك من الآيات التي يذّم الله فيها المشركين لاتباعهم الظن .
واحتجاجهم بهذه الآيات وأمثالها مردود ، لأنّ الظنّ في
الآيات ليس هو الظنّ الذي عنوه ، فإنّ النصوص التي ردّوها ورفضوا الاحتجاج
بها في مسائل العقائد تفيد الظن الراجح ، والظن الذي ذمه الله في قوله : (
إن يتبعون إلا الظنَّ ) [ النجم : 23 ] هو الشك الذي هو الخرص
والتخمين ، فقد جاء في (( النهاية )) و (( اللسان )) وغيرهما من كتب اللغة
(( الظن : الشك يعرض لك في الشيء فتحققه وتحكم به )) .
هذا هو الظن الذي نعاه الله على المشركين ، ومما يؤيد
ذلك قول الله فيهم ( إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا
يخرصون ) [ الأنعام : 116 ] فجعل الظن هو الخرص الذي هو مجرد الحزر
والتخمين ، إذ لو كان الظن المنعي به على المشركين هو الظن الغالب فإنه لا
يجوز الأخذ به في الأحكام أيضاً ، لأنّ الله أنكر على المشركين الأخذ
بالظنّ إنكاراً مطلقاً ، ولم يخصه بالعقيدة دون الأحكام ، ولأنّ الله صرح
في بعض الآيات أنّ الظنّ الذي أخذه على المشركين يشمل القول به في الأحكام
أيضاً ، فاسمع إلى قوله تعالى الصريح في ذلك : (
سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آبَاؤُنَا ) [
الأنعام : 148 ] وهذه عقيدة ، ( ولا حرمنا من شيءٍ
) [ الأنعام : 148 ] وهذا حكم ، ( كذلك كذب
الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علمٍ فتخرجوه لنا إن تتبعون
إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ) [ الأنعام : 148 ] .
ثم إننا لا نسلم لهم القول إنّ أحاديث الآحاد لا تفيد
العلم ، بل قد تفيده ، يقول صديق حسن خان : " والخلاف في إفادة خبر الآحاد
الظن أو العلم تقيد بما إذا لم يضم إليه ما يقويه ، أما إذا انضم إليه ما
يقويه أو كان مشهوراً أو مستفيضاً فلا يجري فيه الخلاف المذكور .
ولا نزاع في أنّ خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمل
بمقتضاه فإنّه يفيد العلم ، لأنّ الإجماع عليه قد صيره من المعلوم صدقه ،
وهكذا خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول ، فكانوا بين عامل به ومتأول له
، ومن هذا القسم أحاديث صحيحي البخاري ومسلم ".
وقال العلامة السفاريني في (( لوامع الأنوار البهية ))
:
" وخبر الآحاد إن كان مستفيضاً مشهوراً أفاد علماً
نظرياً كما نقله العلامة ابن مفلح وغيره عن أبي إسحاق الأسفراييني وابن
فورك ، وقيل يفيد القطع " .
ثم ذكر قولاً إن خبر الآحاد غير المستفيض يفيد الظن
لاحتمال السهو والخطأ ، ولكنّه نقل عن الإمام الموفق ( ابن قدامة ) وابن
حمدان والطوفي وجمع أنّه يفيد العلم بالقرائن .
قال العلامة علاء الدين عليّ بن سليمان المرداوي في شرح
التحرير : " وهذا أظهر وأصح " وضبط القرائن يكون ( بسكون النفس إلى الخبر
كسكونها إلى المتواتر أو قريب منه بحيث لا يبقى احتمال عنده ألبتة ) .
ونصَّ أيضاً على أنّ خبر الآحاد غير المستفيض يفيد
العلم إذا نقله آحاد الأئمة المتفق عليهم وعلى إمامتهم وضبطهم .
ونقل عن القاضي أبي يعلى : " أنّ هذا هو المذهب ( مذهب
الحنابلة ) ، وقال أبو الخطاب : هذا ظاهر كلام أصحابنا " .
وذكر السفاريني أن هذا القول اختاره ابن الزاغوني
والإمام تقي الدين ابن تيمية ، ثم ذكر أن الذي عليه (( الأصوليون من أصحاب
أبي حنيفة والشافعي وأحمد – رضي الله عنهم أجمعين – أنّ خبر الواحد إذا
تلقته الأمّة بالقبول تصديقاً وعملاً به يوجب العلم )).
ثم ذكر أنّ المخالفين في ذلك من أتباع الأئمة فرقة
قليلة تابعت علماء الكلام ، وذكر أنّ ممن قال بإفادة خبر الآحاد العلم ((
أبا إسحق وأبا الطيب ، وذكره عبد الوهاب وأمثاله من المالكية والسرخسي
وأمثاله من الحنفية )) وقال : " وهو الذي عليه أكثر الفقهاء وأهل الحديث
والسلف وأكثر الأشعرية وغيرهم " .
وقال ابن الصلاح : " ما أسنده البخاري ومسلم العلم
اليقيني النظري واقع به ، خلافاً لقول من نفى ذلك محتجاً بأنّه لا يفيد في
أصله إلا الظن ، وإنما تلقته الأمّة بالقبول ، لأنه يجب عليهم العمل بالظن
، قال : والظنّ قد يخطئ " .
قال ابن الصلاح : " وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قوياً
، ثم بان لي أنّ المذهب الذي اخترناه أولاً هو الصحيح ، لأنّ ظنّ من هو
معصوم من الخطأ لا يخطئ ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ " . وابن
الصلاح يعني أن الأمة أجمعت على صحة أحاديث البخاري ومسلم .
قال السفاريني : " ولما وقف ابن كثير على اختيار ابن
الصلاح من أنّ ما أسند في الصحيحين مقطوع بصحته ، قال : وأنا مع ابن الصلاح
فيما نصّ عليه وأرشد عليه " .
ثم ذكر أنّ ابن كثير وقف على كلام لشيخه ابن تيمية
مضمونة أنّه نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول عن جماعات ، وبعد
أن ذكر بعض أسمائهم قال : (أي ابن تيمية) " وهو مذهب أهل الحديث قاطبة
ومذهب السلف عامة " . (10)
والصواب من القول أن أحاديث الآحاد الصحيحة تفيد اليقين
إذا احتفت بها قرائن ودلائل كما نقلنا ذلك عن جملة من أهل العلم ،
فالأحاديث التي وردت في كتب السنة وصححها أهل العلم ولم يطعن في صحتها واحد
منهم تفيد اليقين لإجماع الأمة على صحتها ، ومن ذلك ما اتفق عليه صاحبا
الصحيحين أو ورد في واحد من الصحيحين ، ولم يطعن في صحته واحد من أهل العلم
. ومن ذلك أن يكون الحديث مشهوراً أو مستفيضاً أو رواه الأئمة الكبار كمالك
عن نافع عن ابن عمر .
خلاصة القول في المسألة :
الصواب من القول أن علماء أهل السنة يقبلون أحاديث الآحاد الصحيحة في
العقائد والأحكام من غير تفريق في ذلك ، يدلك على هذا تخريج أئمة أهل السنة
كمالك وأحمد و البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي والدارمي وغيرهم
للأحاديث المثبتة للعقائد في مدوناتهم ، والمتواتر منها قليل ، ولو لم
يرتضوا الاستدلال بها لما أتعبوا أنفسهم في روايتها وضبطها وتدوينها ، ومن
قال عنهم خلاف ذلك فإنه قد افترى عليهم ، ولا دخل لكون الأحاديث الآحاد
تفيد الظن الراجح أو اليقين في المسألة .
فالذين يقولون لا تفيد اليقين يرون الأخذ بها في
العقائد إذا صحت ولا تلازم بين إفادتها الظن وردها في باب الاعتقاد .
فابن عبد البر رحمه الله تعالى مع قوله إنّ أخبار
الآحاد لا تفيد اليقين إلا أنه يرى أنه يجب الأخذ بها في العقائد كما يؤخذ
بها في الأحكام ، وينسب ذلك إلى جماعة أهل السنة .
(11)
--------------------------------
(1)
انظر كتاب عمر الأشقر ( أصل الاعتقاد ) فقد حقق فيه القول في هذه المسألة .
(2) الحديث المتواتر ما رواه جمع غفير
يستحيل في العادة اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب من مبدأ السند إلى منتهاه ،
والآحاد ما نقص عن درجة التواتر .
(3) الموضوع : المكذوب أي ما في سنده
كذاب ، والضعيف ما لم تتوافر فيه شروط الصحيح .
(4) الفوائد المجموعة في الأحاديث
الموضوعة ، للشوكاني : 441 .
(5) المصدر السابق : 448 .
(6) الإسلام عقيدة وشريعة ، لشلتوت : ص
53 .
(7) المصدر السابق .
(8) يعنون بالقطعي الثبوت : القرآن
والحديث المتواتر . وبقطعي الدلالة : أن النص لا يحتمل معنى آخر ، أي لا
يحتمل التأويل ، وقد ردوا لذلك النصوص الدالة على رؤية المؤمنين لربهم يوم
القيامة ، أما الأحاديث فهي وإن كانت قطعية الدلالة فقد زعموا أنها أحاديث
آحاد ، وأما نصوص القرآن فقالوا : غير قطعية الدلالة وأولوها تأويلاً آخر (
انظر إنكار الشيخ شلتوت لرؤية العباد لربهم في كتابه الإسلام عقيدة وشريعة
: ص 57) .
(9) انظر (( الحديث حجة بنفسه )) و ((
وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقائد والأحكام )) ، للشيخ ناصر الدين
الألباني ، وكتابنا : (( أصل الاعتقاد )) .
(10) لوامع الأنوار البهية : ص 17 ،
وبهذه النقول الكثيرة التي أثبتناها يتبين لك ما في قول الشيخ شلتوت من
التجني حيث يقول : " وهكذا نجد نصوص العلماء متكلمين وأصوليين مجتمعة على
أن خبر الآحاد لا يفيد اليقين ، فلا تثبت به العقيدة ، ونجد المحققين من
العلماء يصفون ذلك بأنه ضروري لا يصح أن ينازع أحد في شيء منه ... " راجع
الإسلام عقيدة وشريعة : ص 75 .
(11) راجع التمهيد : لابن عبد البر : 1/7
.