وقد وردت نصوص كثيرة تدل على وجوب الأخذ بحديث الآحاد
والاحتجاج بها في إثبات العقائد ، منها :
1- قوله تعالى : ( وما كان
المؤمنون لينفروا كافةً فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين
ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) [ التوبة : 122 ]
فهذه الآية فيها حثّ للقبائل والعشائر وأهل النواحي والأقطار المختلفة من
المؤمنين على أن ينفر من كلّ منهم طائفة ليتفقهوا في دينهم ، ثم يرجعوا إلى
قومهم فينذروهم ، والطائفة في لغة العرب : تطلق على الواحد فما فوق ،
والتفقه في الدين : يشمل العقائد والأحكام ، بل التفقه في العقائد أهم من
التفقه في الأحكام ، ولذا أطلق الإمام أبو حنيفة – رحمه الله – على وريقات
كتبها في العقائد : ( الفقه الأكبر ) ، ففي الآية دليل صريح على وجوب الأخذ
بأحاديث الآحاد في العقيدة ، وإلا لما جاز للطائفة أن تنذر قومها .
2- قوله تعالى : ( يا أيها الذين
آمَنُوا إن جاءكم فاسق بِنَبَأٍ فتبينوا ) [ الحجرات: 6] وفي
القراءة الأخرى ( فتثبتوا ) ، فإنّها تدلّ على أنّ من لم يكن فاسقاً بأن
كان عدلاً إذا جاء بخبر ما فالحجة قائمة به ، وأنّه لا يجب التثبت ، بل
يؤخذ حالاً .
3- وقد ورد في السنة ما يوضح قوله تعالى : (
فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة ) [ التوبة
: 122 ] ، فقد روى البخاري في صحيحه عن مالك بن الحويرث قال : (
أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحن شَبَبَة
متقاربون ، فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة ، وكان رسول الله رحيماً رقيقاً
، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا ، أو قد اشتقنا ، سألنا عمن تركنا بعدنا ،
فأخبرناه ، قال : ارجعوا إلى أهليكم ، فأقيموا فيهم ، وعلموهم ، ومروهم
وصلوا كما رأيتموني أصلي ) . (1)
فقد أمر كلَّ واحد من هؤلاء الشباب أن يعلِّم كلُّ واحد
أهله ، والتعليم يعمّ العقيدة ، بل هي أول ما يدخل في العموم ، فلو لم يكن
خبر الآحاد مما تقوم به العقيدة لم يكن لهذا الأمر معنى .
4- وفي صحيحي البخاري ومسلم أيضاً : أنّ أهل اليمن
قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : "
ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام ، قال فأخذ بيد أبي عبيدة " فقال :
( هذا أمينُ هذه الأمة ) ". (2)
فلو لم تقم الحجة بخبر الواحد لم يبعث الرسول صلى الله
عليه وسلم إليهم أبا عبيدة وحده ، وكذلك يقال في بعثه صلى الله عليه وسلم
في نوبات مختلفة أو إلى بلاد متفرقة غيره من الصحابة : كعلي بن أبي طالب ،
ومعاذ بن جبل ، وأبي موسى الأشعري ، وأحاديثهم في الصحيحين وفي غيرهما .
ولا ريب أن هؤلاء كانوا يعلّمون العقائد في جملة ما
يعلمون ، فلو لم تكن الحجة قائمة بهم عليهم لم يبعثهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم أفراداً .
قال الإمام الشافعي – رحمه الله – في كتابه ( الرسالة )
: " وهو لا يبعث بأمره ، إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمة بقبول خبره
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " . (3)
الرد على القائلين إن حديث
الآحاد لا يؤخذ بها في العقيدة :
وقد ردَّ العلماء على الذين لا يأخذون بأحاديث الآحاد
في العقيدة من وجوه كثيرة منها :
1- القول إن أحاديث الآحاد لا تثبت بها عقيدة قول مبتدع
حادث لا أصل له في الشريعة ، وكلّ ما كان كذلك فهو قول مردود .
2- قولهم هذا في ذاته عقيدة ( أي أنّ أحاديث الآحاد لا
يحتج بها ) ، وعلى طريقتهم فإن هذه العقيدة تحتاج إلى دليل قطعي ينهى عن
الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة ، ولا دليل على ذلك .
3- لو وجد دليل قطعي يدل على أن أحاديث الآحاد لا تثبت
بها عقيدة لعلمها الصحابة وصرحوا بها ، وكذلك مَنْ بعدهم من السلف الصالح .
4- هذا القول مخالف للمنهج العلمي الذي كان عليه
الصحابة ، فقد كان الواحد منهم يقبل خبر من حدثه عن الرسول صلى الله عليه
وسلم ويجزم به ، ولا يرد قول أخيه بحجة أن الحديث الذي نقله إنما هو حديث
آحاد .
5- الأدلة الدالة على وجوب الأخذ بأدلة الكتاب والسنة
تشمل العقائد والأحكام ، فتخصيص هذه الأدلة بالأحكام دون العقائد إذا كانت
آحاداً تخصيص من غير مخصص .
6- أمر الله – تعالى – رسوله بالبلاغ المبين ، ومعلوم
أنّ البلاغ المبين هو الذي تقوم به الحجة على المُبلغ ويحصل به العلم ، فلو
كان خبر الواحد لا يحصل به العلم ، لم يقع به التبليغ فإنّ الحجة إنّما
تقوم بما يحصل من العلم .
7- يلزم من هذا القول إبطال الأخذ بالأحاديث الآحاد في
العقيدة مطلقاً من بعد الصحابة الذين سمعوه منه صلى الله عليه وسلم مباشرة
، لأن الأحاديث لم تصل للناس قبل تدوينها إلا بطريق الآحاد ، والذين وصلهم
الحديث بطريق التواتر قليل ، بل أقل من القليل ، ثم إنّ إخبار هؤلاء غيرهم
أن الحديث الفلاني متواتر لا يفيد العلم ، لأنّ خبر هذا العالم خبر آحاد .
8- هذا القول يقتضي ترك العمل بأحاديث الآحاد التي فيها
عقيدة وعمل ، لأنّ عدم الأخذ بها في العقائد ردّ لها ، فكيف يؤخذ بها في
الأحكام ؟!
9- لم يتفق
الأصوليون على هذا القول – كما زعم الشيخ شلتوت – وقد نص الإمام مالك
والشافعي وأصحاب أبي حنيفة وداود بن علي وأصحابه كابن حزم على أن خبر
الواحد يفيد العلم ، ونص عليه الحسين بن علي الكرابيسي والحارث بن أسد
المحاسبي والقاضي أبو يعلى من الحنابلة .
--------------------------------
(1)
صحيح البخاري : 2/110 ، ورقمه : 627 ، ورواه مسلم : 1/465 ورقمه : 674 ،
واللفظ للبخاري .
(2)
صحيح مسلم : 4/1888 ، ورقمه : 2419 ، والذي في البخاري أنه أرسله إلى أهل
نجران ، صحيح البخاري : 7/93 ، ورقمه : 3745 ، 13/232 ، ورقمه : 7254 .
(3)
الرسالة ، الشافعي : 412 .