الفرق بين العقيدة الإسلامية
والفلسفة وعلم الكلام
على الرغم من أنّ الموضوع الذي تعالجه الفلسفة هو
الموضوع ذاته الذي يعالجه الدين ، إذ يزعم الفلاسفة أنّ مباحثهم تهدف إلى
معرفة أصل الوجود وغايته ، ومعرفة السبيل الذي يحقق السعادة الإنسانية
عاجلاً وآجلاً ، وهذان هما موضوع علم الفلسفة بقسميها العلمي والعملي ،
وهما كذلك موضوع علم الدين (1) – أقول على
الرغم من ذلك إلا أنّ الاختلاف بين الدّين والفلسفة اختلاف كبير . فهما
يختلفان في المصادر والمنابع ، وفي المنهج والسبيل ، وفي قوة التأثير
والسيطرة ، وفي الأسلوب وطريقة الاستدلال ، وفي آثار كل منهما . وسنحاول أن
نبين ذلك كله حتى يزول هذا الخلط بين الدين والفلسفة .
1-
المصادر والمنابع :
الفلسفة في كل صورها (( عمل إنساني )) يتحكم فيه كل ما
في طبيعة الإنسان من قيود وحدود وتدرج بطيء في الوصول إلى المجهول ،
وقابلية للتغير والتحول ، وتقلب بين الهدى والضلال ، واقتراب أو ابتعاد عن
درجة الكمال .
ولذا فإن أساطين الفلسفة لم يستطيعوا أن يتخلّصوا من
التأثر بالبيئة ، فكانت تصوراتهم ومعتقداتهم فيها صدى كبير لما يحيط بهم .
(2)
ولنأخذ على ذلك مثلاً ( أفلاطون ) فإنّا إذا درسنا
نتاجه رأيناه يردد الأساطير التي سادت في عصره ، بل إنّه ينشئ الأسطورة ،
ويضمنها أفكاره ومعتقداته ، بل إن كثيراً من معتقداته وآرائه هي أساطير في
ذاتها .
اسمع ما يقوله العقاد في ( أفلاطون ) : " غلبت البيئة
الوثنية أفلاطون على تفكيره بحكم العادة وتواتر المحسوسات ، فأدخل في
عقيدته أرباباً ، وأنصاف أرباب لا محل لها في ديانات التوحيد " .
(3)
ثم يعرض العقاد نظرية أفلاطون في الوجود تدليلاً على ما
يقول : " فالوجود في مذهب أفلاطون طبقتان متقابلتان : طبقة العقل المطلق ،
وطبقة المادة الأولية أو (الهيولي) ، والقدرة كلها من العقل المطلق ،
والعجز كله من (الهيولي) ، وبين ذلك كائنات على درجات تعلو بمقدار ما تأخذ
من العقل ، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولي ، وهذه الكائنات المتوسطة
بعضها أرباب ، وبعضها أنصاف أرباب ، وبعضها نفوس بشرية " .
(4)
والسبب الذي من أجله ارتضى أفلاطون وجود تلك الأرباب
المتوسطة كما يقول العقاد " إنه أراد أن يعلل بها ما في العالم من شرّ ونقص
وألم ، فإنّ العقل المطلق كمال لا يحدّه الزمان والمكان ، ولا يصدر عنه إلا
الخير والفضيلة ، فهذه الأرباب الوسطى هي التي تولت الخلق لتوسطها بين
الإله القادر (( والهيولي )) العاجز ، فجاء النقص والشر والألم من هذا
التوسط بين الطرفين " . (5)
ومن المعروف أيضاً أن أفلاطون يؤمن بعقيدة تناسخ
الأرواح .
هذه هي الفلسفة في مصادرها .
أما العقيدة الإسلامية فهي وحي من الله ، له كلّ ما
للإلهيات من ثبات الحقّ الذي لا تبديل لكلماته ، وصرامة الصدق الذي لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ثم هو فوق ذلك (( منحة كريمة ))
تصل إلى حامليها وسفرائها عفواً بلا كدح ولا نصب ، وتغمرهم بنورها في فترات
خاطفة كلمح البصر أو هو أقرب . (6)
2- المنهج والسبيل
(7) :
يختلف المنهج الفلسفي عن المنهج الإسلامي في خط سير كلّ
منهما بداية ونهاية ، فالفلاسفة كثير منهم يبدؤون بدراسـة النفس الإنسانية
، ويجعلونها الأصل الذي يبنون عليه ، ويفرعون عنه ، فتكلموا في إدراكهم
للعلم : وأنه تـارة يكون بالحسّ ، وتارة بالعقل ، وتارة بهما .
وجعلوا العلوم الحسيّة ، والبدهية ونحوها : هي الأصل
الذي لا يحصل علم إلا بها ، ثم زعموا أنهم إنما يدركون بذلك الأمور القريبة
منهم ، من الأمور الطبعية والحسابية ، والأخلاق ، فجعلوا هذه الثلاثة هي
الأصول التي يبنون عليها سائر العلوم ، ولهذا يمثلون ذلك في أصول علم
الكلام ، بأن الواحد نصف الاثنين ، وأن الجسم لا يكون بمكانين ، وأن
الضدّين – كالسواد والبياض – لا يجتمعان .
وكثير من هؤلاء لا يجعلون الأخلاق مثل : العدل ،
والعفّة من الأصول ، بل من الفروع التي تفتقر إلى الدليل .
وكثير من المصنفين في الفلسفة يبتدئ بالمنطق ، ثم
الطبيعي والرياضي ، ثم ينتقل إلى العلم الإلهي ، وتجد المصنفين في الكلام
يبدؤون بمقدماته في الكلام : في النظر والعلم والدليل ، وهو من جنس المنطق
، ثم ينتقلون إلى حدوث العالم وإثبات مُحدثِه ، ومنهم من ينتقل من تقسيم
المعلومات إلى الموجود والمعدوم وأقسامه ، كما يفعله الفيلسوف في أول العلم
الإلهي .
وغالبية الفلاسفة يتوسعون في الأمور الطبعية ، ثم
يصعدون إلى الأفلاك وأحوالها ، ثم المتألهون منهم يصعدون إلى واجب الوجود ،
وإلى العقول والنفوس ، ومنهم من يثبت واجب الوجود ابتداء من جهة أن الوجود
لا بدّ فيه من واجب .
وأما الغاية التي يرمي إليها المتكلمون الذين يقررون
التوحيد في كتب الكلام والنظر هي إثبات وحدانية الخالق ، وأنّه لا شريك له
، ويظنون أنّ هذا هو المراد بـ ( لا إله إلا الله ) .
هذا المنهج الفلسفي الكلامي يشغل الباحث والناظر فيه في
قضايا ينقضي العمر ، ولا ينتهي من بعضها ، بل إنّ الذي يحصّله منها ينطوي
على شبهـات تجعل اليقين غير موجود ، فيصاب الباحث بالحيرة والشك .
أما المنهج القرآني ، فإنّه يجعل فاتحة دعوته ودعوة
الرسل جميعاً : الدعوة إلى عبادة الله وحده ( وما
أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
) [ الأنبياء : 25 ] وكلّ رسول كان يطلب قومه في أول الأمر بأن يعبدوا الله
وحده ( اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) [
المؤمنون : 23 ] يطالبهم بعبادته بالقلب ، وعبادته باللسان ، وعبادته
بالجوارح ، وعبادة الله متضمنة لمعرفته وذكره .
وأصل العلم عندهم هو العلم بالله سبحانه ، لا الحس ولا
البدهيات فالله هو الأول الذي خلق الكائنات ، والآخر الذي إليه تصير
الحادثات ، فهو الأصل الجامع ، والعلم به أصل كل علم وجامعه ، وذكره أصل كل
ذكر وجامعه ، والعمل له أصل كل عمل وجامعه .
ومن العلم به تتشعب أنواع العلوم ، ومن عبادته وقصده
تتشعب وجوه المقاصد الصالحة ، والقلب بعبادته والاستعانة به معتصم مستمسك
قد لجأ إلى ركن وثيق ، واعتصم بالدليل الهادي ، والبرهان الوثيق ، فلا يزال
إما في زيادة في العلم والإيمان ، وإما في السلامة عن الجهل والكفران ،
فالعلم بالله أعظم سبيل لمعرفة الله ، ومعرفة الحياة والأشياء ، ومعرفة
النفس الإنسانية .
يقول ابن أبي حاتم : " عرفنا كل شيء بالله " . وسئل ابن
عباس : بم عرفت ربك ؟ قال : " من طلب دينه بالقياس
لم يزل دهره في التباس ، ظاعناً (8)
في الاعوجاج ، زائغاً
(9) عن المنهج ، أعرفه بما عرّف به نفسه ،
وأصفه بما وصف به نفسه " .
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم معاذاً حين أرسله
إلى اليمن للدعوة إلى الله : أنّه سيقدم على قوم أهل كتاب وأوصاه أن يكون
أول ما يدعوهم إليه عبادة الله ، فإذا عرفوا ذلك فيدعوهم إلى الفرائض ، ولم
يأمره صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم أولاً إلى الشك ، أو النظر ، أو القصد
إلى النظر كما هي طريقة بعض المتكلمين .
ولذا ابتدأ البخاري كتابه بالأصل الذي يقوم عليه العلم
والإيمان ألا وهو الوحي ، فعقد كتاباً عنون له بـ ( بدء نزول الوحي ) ،
فأخبر عن صفة نزول العلم والإيمان على الرسول صلى الله عليه وسلم أولاً ،
ثم أتبعه بكتاب الإيمان الذي هو الإقرار بما جاء به ، ثم بكتاب العلم الذي
هو معرفة ما جاء به ، فرتبه الترتيب الحقيقي الذي يدل على علمه وحكمته رحمه
الله .
والله عندما يبعث الناس لا يسألهم عن العلوم الحسية
والبدهية ، والمنطق والطبعي ، بل يسألهم عن استجابتهم للرسل أو عدمها (
كلما ألقى فيها فوجٌ سألهم خزنتها ألم يأتكم نذيراً
– قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ فكذبنا وقلنا ما نزَّل الله من شيءٍ إن أنتم
إلا في ضلال كبير – وقالوا لو كنَّا نسمع أو نعقل ما كنَّا في أصحاب السعير
– فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير ) [ الملك : 8-11 ] ،
والحجة لا تقوم على الناس إلا ببعثه الرسل ( وما
كنَّا معذبين حتى نبعث رسولاً ) [ الإسراء : 15 ] .
وكما أن الدعوة إلى الله هي نقطة البداية في المنهاج
القرآني ، ومعرفة الله هي الأصل الذي تتفرع منه العلوم ، فإن نقطة النهاية
أيضاً عبادة الله المتضمنة معرفته وتوحيده . أما مجرد الإقرار بوحدانية
الخالق وإفراد الصانع التي هي نهاية مطلوب علماء الكلام ، فإنها – على
الرغم من أهميتها – جزئية في المنهج القرآني لا يكفي مجرد الإقرار بها ،
ولذا لم تنفع المشركين الذين حاربهم الرسول صلى الله عليه وسلم مع إقرارهم
بذلك ( ولئِن سألتهم من خلق السماوات والأرض
ليقولنَّ الله ) [ لقمان : 25 ] . ( قل من رب
السماوات السبع ورب العرش العظيم – سيقولون الله ) [ المؤمنون :
86-87 ] .
أما الفلاسفة الذين بحثوا في العقول والنفوس فهم يخبطون
في هذا المجال خبطاً لا قرار له ، وحسبك دليلاً على ذلك أن التقدم العلمي
الهائل في هذا العصر لم يكشف لنا حقيقة النفس الإنسانية (( ولقد بذل الجنس
البشري مجهوداً جباراً لكي يعرف نفسه ، ولكن على الرغم من أننا نملك كنزاً
من الملاحظات التي كدسها الفلاسفة والعلماء والشعراء وكبار الروحانيين في
جميع الأزمان إلا أننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة فقط من أنفسنا ، إننا
لا نفهم الإنسان ككل ، ... إننا نعرفه على أنّه مكون من أجزاء مختلفة ،
وحتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا ! فكل واحد منا مكوّن من موكب من
الأشباح ، تسير في وسطها حقيقة مجهولة .
وواقع الأمر أنّ جهلنا مطبق ، فأغلب الأسئلة التي
يلقيها على أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشري تظل بلا جواب ، لأن
هناك مناطق غير محدودة في دنيانا الباطنة ما زالت غير معروفة )) .
(10)
إذا كانت هذه هي المعرفة التي بلغتها الأبحاث في القرن
العشرين ، فكيف تجعل النفس الإنسانية هي الأصل الذي يتفرع عنه مختلف العلوم
، أمّا المعرفة بما وراء الطبيعة فإن الفلسفة ضلت فيها ضلالاً أبعد وأبين .
3- قوة التأثير
(11) :
العقيدة تمتاز بسلطان قوي قاهر على نفوس معتنقيها ،
وليس للفلسفة أن تطمح إلى نيل هذه الميزة ، وإلا لجاوزت قدرها ، وتناقضت في
نفسها ، والسبب في ذلك أنّ الفلسفة تبحث عن المعرفة والحقيقة بقدر الطاقة
البشرية ، ثم تعرض ما تظفر به في جوانب تلك الحقيقة ، والفيلسوف هو أول من
يعرف قصور العقل البشري ، وقصور كل ما هو إنساني عن درجة الكمال ، ولذلك
كان التسامح والتواضع العلمي من أظهر خصائصه ، فسقراط وهو مَنْ هو بين
الفلاسفة يقول : " الشيء الذي لا أزال أعلمه جيداً هو أنني لست أعلم شيئاً
" .
أما صاحب العقيدة فيرى أنّ عقيدته التي يحملها مستمدة
من العالم بسر الوجود الذي أحاط بكل شيء علماً ، فهي تمثل الحقيقة بلا غبش
.
فهي بطبيعتها ملزمة ، تتقاضى صاحبهـا الخضوع والتسليم ،
ولا تقبل منه في حكمها جدالاً ولا مناقضة ، بل لا تبيح له في نفسها بحثاً
ولا ترديداً ، فإن فعل ذلك في مسألة ما ، كان في هذه المسألة بعينها
متفلسفاً غير متدين ، حتى يستقرّ فيها على رأي معين يدين به ، فهنالك لا
يقبل فيه مساومة ، ولا يستطيع منه تحللاً ، إذ يصبح عقيدة يخلص لها إخلاصاً
خارقاً للعادة ، حتى لا يبالي بأن يضحّي في سبيلها بحياته ، ولا نكاد نجد
هذا السلطان على النفس لفكرة أخرى : علمية أو سياسية أو غيرها .
ويبين الشيخ محمد عبد الله دراز السر في هذه الظاهرة
فيقول : " السر في هذه الظاهرة – وهي قوة سلطان العقيدة وتميزها بذلك عن
الفلسفة – يتمثل في الفارق بين حقيقة المعرفة وحقيقة الإيمان ، وفي الفرق
بين القوة النفسية التي تقوم بوظيفة المعرفة ، والقوة النفسية التي تقوم
بوظيفة الإيمان . فالواحد من الناس قد يدرك معنى الجوع والعطش وهو غير محس
بآلامهما ، وقد يفهم معنى الحبّ والشوق ، وليس من أهلهما ، وقد يرى الأثر
الفني البارع فيفهم أسراره ، ويقف على دقائق صنعه ، ولكنه لا يتذوقه ، ولا
يتملك قلبه الإعجاب به ....
هذه ضروب من المعرفة والعلم ، يهديها إلينا الحس ، أو
الفكر ، أو البديهة ، فتلاحظها النفس ، وكأنها غريبة عنها ، أو تمرّ بها
عابرة ، فتمسها مساً جانبياً لا يبلغ إلى قرارتها ، أو تختزنها وتدخرها ،
ولكنها لا تهضمها ولا تتمثلها ، وكل حالة نفسية تقف بالأفكار والمبادئ عند
هذه المراحل فليست من الإيمان في قليل ولا كثير .
الإيمان معرفـة تتجاوب أصداؤها في أعماق الضمير ،
وتختلط مادتها بشغاف القلوب ، فلا يجد الصدر منها شيئاً من الضيق والحرج ،
بل تحس النفس ببرد اليقين ، الإيمان تذوق ووجدان يحمل الفكرة من سماء العقل
إلى قرارة القلب ، فيجعلها للنفس رياً وغذاء يدخل في كيانها ، ويصبح عنصراً
من عناصر حياتها ، الإيمان يحول الفكرة قوة دافعة فعّالة خلاقة ، لا يقف في
سبيلها شيء في الكون إلا استهانت به .
هذا هو فصل ما بين الدين والفلسفة ، غاية الفلسفة
المعرفة ، وغاية الدّين الإيمان ، مطلب الفلسفة فكرة جافة ترتسم في صورة
جامدة ، ومطلب الدين روح وثّابة وقوة محركة .
ويلاحظ دراز أن الفلسفة تعمل في جانب واحد من جوانب
النفس ، بينما الدين يستحوذ على النفس بجملتها ، وأن الفلسفة ملاحظة وتحليل
وتركيب ، فهي صناعة تقطع أوصال الحقيقة وتزهق روحها ، ثم تؤلف بينها
لتعرضها من جديد في نسق صناعي على مرآة الفطنة ، فتنطبع سطح النفس قشرة
يابسة ، أما الدّين فهو حداء ونشيد يحمل الحقيقة جملة ، فيعبر بها القشرة
السطحية ، لينفذ منها إلى أعماق القلوب وأغوارها ، فتعطيها النفس كليتها
وتملكها زمامها .
وهنا يستنبط دراز فرقاً دقيقاً بين الفلسفة والدين :
فيلاحظ أنّ غاية الفلسفة نظرية حتى في قسمها العملي ، وغاية الدّين عملية ،
حتى في جانبه العلمي ، فأقصى مطالب الفلسفة أن تعرفنا الحق والخير ما هما
، وأين هما ؟ ولا يعنيها بعد ذلك موقفنا من الحقّ الذي تعرفه ، والخير الذي
تحدّده ، أما الدّين فيعرفنا الحقّ لا لنعرفه فحسب ، بل لنؤمن به ونحبه
ونمجّده ، ويعرفنا الواجب لنؤدّيه ونوفيه ، ونكمل نفوسنا بتحقيقه .
وكي يزيد الأمر إيضاحاً قارن بين الآثار العملية
الدينية والفلسفية ، وبَيّنَ دراز أنّ الدّين يلفت النظر كي يتعرف الإنسان
إلى خالقه ، ويتوجه إليه ، ويحبّه ويُقدّسه ، على أنّ غاية الفلسفة مجرد
المعرفة التي تربط بين الأسباب والمسببات .
وبين أنّ العقيدة تتدفق في الميدان الاجتماعي ، فهي تهز
صاحبها لتحقيق أهدافها بالنشر والدعوة ، بينما الفلسفة لا يعنيها التوسع
والانتشار ، بل قد يضنّ بها أصحابها على غيرهم ، فيحتكرونها ، ويستأثرون
بها .
4- الأسلوب
(12) :
الأسلوب الذي صيغت به العقيدة الإسلامية أسلوب خاص
يمتاز بالحيوية والإيقاع ، واللمسة المباشرة والإيحاء ، الإيحاء بالحقائق
الكبيرة التي لا تتمثل كلها في العبارة ، ولكن توحي بها العبارة ، كما
يمتاز بمخاطبة الكينونة الإنسانية بكل جوانبها وطاقاتها ومنافذ المعرفة
فيها ، ولا تخاطب الفكر وحده في الكائن البشري .
أما الفلسفة فلها أسلوب آخر ، إذ هي تحاول أن تحصر
الحقيقة في العبارة ، ولما كان نوع الحقيقة التي يتصدى لها يستحيل أن تنحصر
في منطوق العبارة – فضلاً على أنّ جوانب أساسية من هذه الحقائق هي بطبيعتها
أكبر من المجال الذي يعمل فيه الفكر البشري – فإنّ الفلسفة تنتهي حتماً إلى
التعقيد والتخليط والجفاف ، ومن هنا لا يجوز أن تُعرض العقيدة الإسلامية
بأسلوب الفلسفة ، لأنه يقتلها ويطفئ إشعاعها وإيحاءها ، ويقصرها على جانب
واحد من جوانب الكينونة الإنسانية .
ومن هنا يبدو التعقيد والجفاف والنقص والانحراف في كل
المباحث التي تحاول عرض العقيدة بهذا الأسلوب الغريب على طبيعتها ، وفي هذا
القالب الذي يضيق عنها ، ومسلك القرآن في بيان العقيدة الإسلامية مُتّسم
بالبساطة والوضوح يجعل إدراكها سهلاً ميسراً لكافة مستويات النّاس على
اختلاف مداركهم وفِطرهم ، يأخذ كل حسب طاقته من التفكير والاقتناع ، بخلاف
تلك الأساليب الفلسفية والكلاميـة المعقدة الممتلئة بالمصطلحات ، إذ لا
يدرك محتوياتها إلا القليل من الناس .
5- طريقة الاستدلال :
وفي هذا الجانب يتميّز القرآن في ما جـاء به من الأدلة
عن الطريقة الفلسفية الكلامية ، ويمكن أن نوضح هذه الفروق في النقاط
التالية :
أ- استدل القرآن بالآيات المشهودة ( الكونية ) على
وحدانية الخالق ، وكذلك الفلاسفة والمتكلمون ، ولكنّ طريقة القرآن مخالفة
للطريقة الفلسفية الكلامية ، فالقرآن يستدل بالآيات نفسها التي يستلزم
العلم بها العلم بصانعها ، كاستلزام العلم بشعاع الشمس العلم بالشمس من غير
احتجاج إلى إقامة الأقيسة التي أقامها المتكلمون للاستدلال على حدوث العالم
.
فالعلم بكون هذه العوالم مخلوقة مربوبة أمر فطري لا
يحتاج إلى إقامة الدليـل والبرهان ، فالإنسان يعلم بفطرته أنّ هذا الكون
الذي يراه فقير إلى الخالق ، مقهور مربوب ، وهذا لا يحتاج إلى تلك الأقيسة
التي أقاموها ، كي نعلم حدوث العالم ، وأن له مُحدثاً .
قال تعالى : ( أو لم ير الذين
كفروا أن السَّماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء
حي أفلا يؤمنون – وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجاً
سبلاً لعلهم يهتدون – وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آيَاتِهَا معرضون
– وهو الذي خلق اللَّيْلَ والنَّهار والشمس والقمر كل في فلكٍ يسبحون
) [ الأنبياء : 30-33 ] .
ب- الأدلة العقلية (13)
التي جاء بها القرآن لائقة بجلال الله وكماله ، فلم يستعمل القرآن قياس
الشمول وقياس التمثيل الذي تستوي أفراده في حقّ الله تعالى ، لأنه يلزم
منهما تسوية الخالق بالمخلوق .
وإنما يستعمل في حقه تعالى قياس الأولى الذي مضمونه أنّ
كلّ كمال وجودي غير مستلزم للعدم ولا للنقص بوجه من الوجوه اتصف المخلوق به
، فالخالق أوْلى أنْ يتصف به ، لأنّه هو الذي وهب المخلوق ذلك الكمال ،
ولأنّه لو لم يتصف بذلك الكمال مع إمكان أن يتصف به ، لكان في الممكنات من
هو أكمل منه وهو محال ، قال تعالى : ( ولله المثل
الأعلى ) [ النحل : 60 ] .
وكلّ نقص ينزّه عنه المخلوق ، فالخالق أولى بالتنزه عنه
.
ج- ونلاحظ أيضاً أن الأدلة العقلية القرآنية تدلّ على
الحقّ بأبلغ عبارة وأوجزها ، أمّا الأدلة العقلية الكلامية والفلسفية فكثير
منها لا ينهض للاستدلال به ، وضعف الدليل الذي يستدّل به على الحقّ يؤدي
إلى كثرة الشك والاضطراب والحيرة ، بل قد يؤدي إلى ردّ الحق ، إذ يسهل على
الخصم بيان عوار الدليل ، فإذا ردّه ردّ الحقّ مع أنّ الحق قويّ في ذاته ،
والضعف إنّما هو في الدليل الموصل إليه ، لأجل ذلك نجد أهل الكلام أكثر
الناس انتقالاً من قول إلى قول ، وجزماً بالقول في موضع وبنقيضه في موضع
آخر ، بل يكفّرون بقولٍ ما ، وهم ممن قال به في مكان آخر ، بخلاف أدلة
الكتاب والسنة فإنّ أصحابها مستقرون عليها ، آخذون بها ، لا يتلجلجون ، ولا
يضطربون . (14)
د- ونلاحظ أنّ بعض أدلة المتكلمين يلزم منها لوازم
باطلة ، إذ يلزم من بعضها ردّ الحق الثابت في الكتاب والسنة .
فقد ردّوا النصـوص التي تدّل على أنّ الله في السماء
بدعوى أنّ الله لا يكون في جهة ، لأنّ كونه في جهة يُعدّ تحيّزاً ، مع أنّ
النصوص صريحة في كونه تعالى في السماء ، وخطؤهم أنّهم ظنوا أنّ معنى كونه
في السماء : أنّ السماء تحويه ، وأخطؤوا أيضاً عندما طبقوا المقاييس
البشرية على الذات الإلهية .
6-الجنى والعطاء :
ومن الفُروق أيضاً أن القرآن يعطي إيماناً مفصّلاً كما
قال جندب بن عبد الله : " تعلمنا الإيمان ، ثم تعلمنا القرآن ، فازددنا
إيماناً " .
فالقرآن يصف لنا ربنا ، وأن له وجهاً ويداً وسمعاً
وبصراً ، ويعدّد لنا أسمـاءه وصفاته : فهو الرحمن الرحيم ، الملك ، القدوس
، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ...... ، ويعرفنا بأفعاله
ومخلوقاته ، ويصف لنا القيامة وأهوالها والجنة والنار كأننا نراهما .
أما طريقة المتكلمين فإنّ غاية ما عندهم إيمان مجمل ،
لا يعطي علماً وافياً ، ولا تصوراً واضحاً .
لا لقاء :
لا لقاء بين الدّين والفلسفة فهما منهجان مختلفان : في
البداية والنهاية ، والطريقة والأسلوب ، وفي التأثير والعطاء ، وقبل ذلك
كلّه في المنابع والمصادر .
والإسلام لا يحتاج إلى من يكمله ، فقد أكمله العليم
الخبير ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي
) [ المائدة : 3 ] ، ولا نحتاج إلى أن نوفّق بينـه وبين الفلسفة ، ولا بينه
وبين اليهودية والنصرانية ، ولا بينه وبين الشيوعية والاشتراكية ، فالإسلام
حق لا باطل فيه ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا
من خلفه ) [ فصلت : 42 ] وغيره إمّا باطل ، وإما حق مخلوط بباطل ،
والإسلام ما جاء لتحكمه أفكار البشر ، وإنما جاء ليهيمن على الحياة
والأحياء ، ويقوّم المعوجّ من العقائد والأفكار .
يجب علينا أن نبقي عقيدتنا وشريعتنا متميزة صافية نقية
كما يريد ربنا ( قد تبين الرشد من الغيّ ) [
البقرة : 256 ] وإن خلطها بغيرها يؤدي إلى اللبس الذي عابه الله على أهل
الكتاب ( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل
) [ آل عمران : 71 ] .
--------------------------------
(1) الدين ، لدراز : 59، 60 .
(2) المصدر السابق : 73 .
(3) كتاب الله ، للعقاد : 129 .
(4) كتاب الله ، للعقاد : 129 .
(5) المصدر السابق .
(6) الدين ، لدراز : 73 .
(7) راجع في هذا الموضوع مجموع الفتاوى ،
لشيخ الإسلام : 2/1، 25، وهذا الذي ذكره وأثبتنا هنا باختصار أصل عظيم يدل
على فقه كبير منه رحمه الله .
(8)
الظعن : السير ، أي : أبعد في الاعوجاج .
(9)
زائغاً : مائلاً وحائداً .
(10)
كتاب العلم يدعو إلى الإيمان .
(11)
راجع في هذا المبحث
كتاب الدين ، لدراز : 69 ، وما بعدها .
(12)
راجع خصائص التصور الإسلامي ، لسيد قطب ص : 16 .
(13) يخطئ كثير من المتكلمين والفلاسفة
في ظنّهم أنَّ دلالة الكتاب والسنة إنما هي بطريق الخبر المجرد ، وأنها لم
تتعرض للأدلة العقلية ، فالحقُّ أنَّ القرآن بين من الأدلة التي يحتاج
إليها في العلم بالله ووحدانيته ما لا يقدر أحد من هؤلاء قدره . ونهاية ما
يذكره المتكلمون جاء القرآن بخلاصته على أحسن وجه ، وذلك كالأمثال المضروبة
التي يذكرها الله تعالى في كتابه التي قال فيها : ( ولقد صرَّفنا في هذا
القرآن للناس من كل مثلٍ ) [ الكهف : 54 ] ، والأمثال المضروبة هي (
الأقيسة العقلية ) .
(14) مجموع الفتاوى ، لابن تيمية : 4/50
.