قاوم العلماء الاتجاه الداعي إلى خلط مباحث العقيدة
بالفلسفة وعلم الكلام ، ذلك الخلط الذي أنشأه الذين يعرفون بفلاسفة الإسلام
كابن سينا ، وحاربوا الذين تأثروا بهذه الفلسفات .
والعلماء الأعلام قسمان : قسم تنبهوا إلى خطر هذا
المسلك منذ الوهلة الأولى ، فقاوموا هذا الاتجاه منذ البداية كالإمام أحمد
، رحمه الله ، وكذلك الشافعي الذي يقول : " حكمي في أهل الكلام أن يضربوا
بالجريد ، والنعال ، ويطاف بهم في القبائل والعشائر ، ويقال : هذا جزاء من
ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام " .
وقسم خاض فيما خاض فيه المتكلمون ، فأضناهم المسير ،
ولم ينتبهوا إلاّ وشمس العمر تميل إلى الغروب ، فتندّموا ولات ساعة مندم ،
ولم يبق لهم سوى التأوه والتحسر ، وسؤال الله أن يتجاوز عنهم ، وأن يحذّروا
مَنْ خلفهم من سلـوك الطريق الذي ساروا فيه .
من هؤلاء محمد بن عمر الرازي قال في كتابه أقسام اللذات
(1) :
نهاية إقدام العقول عقال ×××
وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ×××
وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
××× سوى أنْ جمعنا فيه قيلَ وقالوا
فكم قد رأينا من رجالٍ ودولة ×××
فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علا شرفاتها ×××
رجال فزالوا والجبال جبال
وقال الرازي : " لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج
الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ، ولا تروي غليلاً " وعاد إلى الطريقة
القرآنية ، وضرب مثلاً بمنهج القرآن في الصفات : " ورأيت أقرب الطرق طريقة
القرآن ، أقرأ في الإثبات ( الرحمن على العرش استوى
) [ طه : 5 ] ، ( إليه يصعد الكلم الطيب
) [ فاطر : 10 ] .
وأقرأ في النفي : ( ليس كمثله
شيء ) [ الشورى : 11 ] ، ( ولا يحيطون به
علماً ) [ طه : 110 ] ، ثم قال : " من جرب مثل تجربتي عرف مثل
معرفتي " . (2)
وهذا الشهرستاني يضرب على الوتر نفسه ، ويقرر أنّه لم
يجد عند الفلاسفة والمتكلمين بعد طول بحث إلا الحيرة والندم حيث يقول
(3) :
لعمري لقد طفت المعاهد كلّها ×××
وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر ×××
على ذقن أو قارعاً سن نادم
وهذا الجويني – وهو من الجهابذة الذين اشتغلوا بعلم
الكلام – يقول محذراً من الاشتغال به (4) : "
يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكـلام ، فلـو عرفت أنّ الكلام ، يبلغ بي ما بلغ
ما اشتغلت به " .
وقال عند موته متندماً متحسراً : " لقد خضت البحر الخضم
، وخليت أهل الإسلام وعلومهم ، ودخلت في الذي نهوني عنه ، والآن إن لم
يتداركني الله برحمته ، فالويل لابن الجويني ، وها أنذا أموت على عقيدة أمي
، أو قال على عقيدة العجائز " .
وأبو حامد الغزالي – رحمه الله – من هؤلاء الذين أطالوا
البحث والتنقيب والتنقل من فرقة على فرقة ، وقد انتهى في آخر عمره إلى
الوقف والحيرة في المسائل الكلامية ، وألف كتابه : ( إلجام العوام عن علم
الكلام ) ، بل حرّم الاشتغال بعلم الكلام إلا في حالات خاصة (( الحق أن علم
الكلام حرام إلا لشخصين )) .
وقد أعرض في آخر عمره عن الاشتغال بعلم الكلام والطرق
الكلامية ، وأقبل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، فمات وصحيح
البخاري على صدره .
وأبو الحسن الأشعري نشأ معتزلياً ، وبقي كذلك أربعين
عاماً ، ثم رجع عن ذلك ، وصرّح بتضليل المعتزلة ، وبالغ في الرد عليهم .
(5)
ولقد نشأ فريق بعد ذلك سار على المنهج السليم ، إلا
أنّه استوعب علوم هؤلاء ، وعرف مقاتلهم ، فكان يردّ عليهم بالمنهج القرآني
، ويحاربهم بسلاحهم أيضاً مبيناً ما فيه من عوار وضعف ، وقائد هذا الفريق
وحامـل لوائه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
--------------------------------
(1) الصواعق المرسلة ، لابن القيم : ص : 7 ، وكتاب اعتقادات فرق
المسلمين ، للرازي : 23 .
(2) الفتوى الحموية الكبرى ، لشيخ
الإسلام ابن تيمية : ص : 7 .
(3) نهاية
الإقدام في علم الكلام ، للشهرستاني : ص : 3 .
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ،
وانظر الفتوى الحموية : ص 7 .
(5) انظر كتاب معتقد الإمام أبي الحسن
الأشعري ، ومنهجه لعمر الأشقر .