المبحث الأول
علاقة العقيدة بالإيمان
امتدح الله في كتابه الإيمان وأهل الإيمان في مثل قوله
: ( قد أفلح المؤمنون ) [ المؤمنون : 1] ،
وقال فيهم : ( أولئك على هدىً من ربهم وأولئك هم
المفلحون ) [ البقرة : 5] ، ووعدهم بالجنة : (
أولئك هم الوارثون – الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ) [
المؤمنون : 10-11 ] .
والإيمان الذي أثنى الله على أهله ليس هو العقيدة فحسب
، ولكنَّ العقيدة تمثل قاعدة الإيمان وأصله ، فالإيمان : عقيدة تستقرّ في
القلب استقراراً يلازمه ، ولا ينفك عنه ، ويعلن صاحبها بلسانه عن العقيدة
المستكنّة في قلبه ، ويُصدّق الاعتقاد والقول بالعمل وفق مقتضى هذه العقيدة
.
إنّ العقيدة التي تستكنّ في القلب ، ولا يكون لها وجود
في العلانية عقيدة خاوية باردة ، لا تستحق أن تسمى عقيدة ، وقد نرى كثيراً
من الناس يعرفون الحقيقة على وجهها ، ولكنّهم لا ينصاعون لها ، ولا يصوغون
حياتهم وفقها ، بل قد يعارضون الحق الذي استيقنوه ويحاربونه ، فهذا إبليس
يعرف الحقائق الكبرى معرفة يقينية ، يعرف الله ، ويعرف صدق الرسل والكتب ،
ولكنّه نذر نفسه لمحاربة الحق الذي يعرفه .
وفرعون كان يوقن بأن المعجزات التي جاء بها موسى إنما
هي من عند الله ، ولكنه جحد بها استكباراً وعلواً ، كما قال الله في حقه
وملئه : ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً
وعلوّاً ) [النمل : 14] .
وقد خاطب موسى فرعون قائلاً : (
قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بَصائِر )
[الإسراء : 102] .
وأهل الكتاب يعرفون أنّ محمداً مرسل من ربه : (
يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) [البقرة : 146]
، ولكنّهم لا يقرّون بذلك .
واسمع إلى قول أبي طالب يخاطب الرسول صلى الله عليه
وسلم معتذراً لعدم إيمانه :
ولقد علمتُ بأنّ دين محمد
××× من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة ×××
لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
إذن ليس الإيمان مجرد معرفة باردة بالله ، أو معرفة
يستعلي صاحبها عن الإقرار بها ، أو يرفض أن ينصـاع لحكمها ، بل هي عقيدة
رضي بها قلب صاحبها ، وأعلن عنها بلسانه ، وارتضى المنهج الذي صاغه الله
متصلاً بها .
ولذلك قال علماء السلف : " الإيمان : اعتقاد بالجنان ،
ونطق باللسان ، وعمل بالأركان " . (1)
المبحث الثاني
صلة العقيدة بالشريعة
الإيمان كما ذكرنا له شطران : عقيدة نقية راسخة تستكن
في القلب ، وعمل يظهر على الجوارح ، فإذا فُقِد أحد الركنين ، فإن الإيمان
يزول أو يختل ، إذ الاتصال بين الطرفين وثيق جداً .
مثل الإيمان كشجرة طيبة ضاربة بجذورها في الأرض الطيبة
، وباسقة بسوقها في السماء ، مزهرة مثمرة مِعْطاءة ، تعطي أكلها كلّ حين
بإذن ربها ، فالإيمان هو الشجرة ، وجذورها العقيدة التي تغلغلت في قلب
صاحبها ، والسوق والفروع والثمار هي العمل .
ولا شك أنّ الجذور إذا خلعت أو تعفنت فسدت الشجرة ،
ويبست ، ولم يبق لها وجود ،وكذلك الإيمان لا يبقى له وجود إذا زالت العقيدة
، أمّا إذا قطعت الساق والفروع ، أو قطع بعض منها فإنّ الشجرة تضعف وتهزل ،
وقد تموت كلياً ، لأن وجود الفروع والأوراق ضروري كي تحافظ الشجرة على
بقائها ، وكذلك الأعمال إذا تركت أو ترك جزء منها ، فإنّ الإيمان ينقص أو
يزول .
المبحث الثالث
العناية بالعمل
ومن هنا يجب الاعتناء بفعل الأعمال التي فرضها الله
علينا ، أو حبب إلينا القيام بها ، وبترك ما نهى عنه من أعمال ، لأنّ ذلك
جزء من الإيمان ، فالعمل المتروك –وإن كان قليلاً ينقص من الإيمان بذلك
المقدار .
ومن هنا يجب أن ينتبه الذين يهوتّون من شأن العمل بسنة
الرسول صلى الله عليه وسلم والتزامها إلى خطورة موقفهم ، وقد يتعدى بعض
هؤلاء طوره ، فيصف أموراً من السنن أو الدين بأنها قشور ، ونسأل الله أن
يعفو عن هؤلاء ، فإنّ الدين كله لباب لا قشور فيه ، وإن تفاوتت أمور الدين
في الأهمية .
ولا يفهم من قولنا أننا لا نُعني بالأوليات في العلم
والعمل والدعوة إلى الله ، فهذا أمر ينبغي أن يكون مقرراً ومعلوماً ، ولكن
الذي ننكره هو ترك الجزئيات ، ولوم الذين لا يُلزمون أنفسهم بالصغير
والكبير من أمر الإسلام وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وكم يؤثر في نفسي مشهد عمر عندما طُعِن ، ودخل عليه شاب
، وقال لعمر قولاً حسناً ، فلما أدبر الشاب ليخرج ، إذا إزاره يمس الأرض ،
فدعاه عمر وقال له : " يا ابن أخي ، ارفع ثوبك ،
فإنّه أنقى لثوبك ، وأتقى لربك " (2)
، ولم يمنعه الموت الذي نزل به من أن يرشد ذلك الرجل إلى أمر يعدّه كثير من
الناس اليوم من القشور ، التي لا يجوز أن يُعْنى بها .
--------------------------------
(1)
هذا قول عامة السلف ، ومنهم الأئمة الثلاثة أحمد ومالك
والشافعي . وخالف الإمام أبو حنيفة فقال : الإيمان : الاعتقاد والنطق ،
والعمل من لوازم الإيمان ولا يدخل في مسماه . وذهب فريق آخر إلى أن الإيمان
مجرد التصديق فقط ، ولو لم يكن معه قول ولا عمل ، هذا مذهب الجهمية
والأشاعرة . وذهب الكرامية إلى أنّ الإيمان هو القول فقط . والرد على
مذهبهم يعلم مما أشرنا إليه في الأصل .
(2)
رواه البخاري في صحيحه ، انظر صحيح البخاري بشرحه فتح الباري 7/60 ،
ورقم الحديث : 3700 .