الأحد، 28 سبتمبر 2014

حكمُ الصلاة في المصلَّى المرواني الشيخ حسام الدين عفانة

يقول السائل:ما قولكم فيمن يقول إن الصلاة في المصلى المرواني لا تصح،لأنه لا يجوز أن يكون المأمومُ في مكانٍ أخفضَ من الإمام،أفيدونا؟
الجواب:
أولاً:
المصلى المرواني جزءٌ من المسجد الأقصى المبارك،ويقع المصلى المرواني أسفل الجهة الجنوبية الشرقية من المسجد الأقصى المبارك،وكان يُطلق عليه قديماً اسم التسوية الشرقية من المسجد الأقصى المبارك،نسبةً إلى التسوية المعمارية التي بناها الأمويّون في ذلك الموقع،ليتسنَّى لهم بناء المسجد الأقصى المبارك على أرضيةٍ مستويةٍ وأساساتٍ متينةٍ،حيث قاموا ببناء تلك الأروقة الحجرية القائمة على دعاماتٍ حجريةٍ قويةٍ،والتي شكَّلت هذه القطاعات الضخمة التي نراها اليوم كما أثبت ذلك علماء الآثار.ويتحد حائطاه الجنوبي والشرقي مع حائطي المسجد الأقصى المبارك،وهما كذلك حائطا سور البلدة القديمة في مدينة القدس المحتلة.ويتكوّن المصلّى المرواني من ستة عشر رواقاً،وتبلغ مساحته نحو 4000 مترٍ مربعٍ،ويُعدُّ أكبر مساحةٍ مسقوفة في المسجد الأقصى المبارك حالياً،وخصِّص في زمن عبد الملك بن مروان كمدرسةٍ فقهيةٍ،ومن هنا اكتسبت اسم المصلَّى المرواني.وفي أثناء الاحتلال الصليبي لبيت المقدس استعمله الصليبيون اسطبلاً لخيولهم ومخزناً للذخيرة،وأطلقوا عليه اسم اسطبلات سليمان،وأعاد صلاح الدين الأيوبي فتحه للصلاة بعد تحرير بيت المقدس.والسقف الحالي للمصلَّى المرواني يعود إلى عهد السلطان العثماني سليمان القانوني،أما الأعمدة و الأقواس الموجودة في المصلَّى المرواني فإنها تعود إلى عهد عبد الملك بن مروان.
ونسب الصليبيون اسم الاسطبلات لسليمان عليه السلام اعتقاداً منهم أن الموقع يعود لفترة النبي سليمان عليه السلام،ومن هنا يعتقد كثيرٌ من الناس أن هذا المكان من بناء سيدنا سليمان عليه السلام،وهذا من التلبيس والدسّ الذي يستعمله اليهود،حتى تُنسَب لهم فيما بعد،لتكون شاهداً على وجودهم على هذه البقعة منذ الأزل،وقد أُغلق المصلّى المرواني لسنواتٍ طويلةٍ،لعدة عوامل أهمّها اتساع المكان العلويّ،وقلة عدد المصلين،إلاّ أن تعميق الوعي الإسلامي بمعاني شدِّ الرحال للمسجد الأقصى المبارك وكثرة مرتاديه،ساهم في مضاعفة عدد المصلّين،حيث لم تعدْ ساحات المسجد الأقصى المبارك تكفي لاستيعاب العدد الكبير من المصلين،وخاصةً في شهر رمضان المبارك،مما أوجب ضرورة إعادة افتتاحه وتحويله إلى مصلّىً،وأطلقوا عليه اسم المصلّى المرواني،نسبة إلى مؤسسه الحقيقي.

ثانياً:
الأصل المقرر عند الفقهاء في أحكام في العبادات هو التوقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم،فلا يثبت شيءٌ من العبادات إلا بدليلٍ من الشرع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:[وجماعُ الدين أصلان:أن لا يُعبد إلا الله،ولا نعبده إلا بما شرع،لا نعبده بالبدع،كما قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}سورة الكهف الآية 110]رسالة العبودية ص 170-171.وبناءً على ذلك لا يثبت أي حكمٍ شرعيٍ في الصلاة إلا بدليلٍ شرعيٍ صحيحٍ.
ثالثاً:
اختلف الفقهاء في مسألة ارتفاع الإمام على المأمومين في الصلاة، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[المشهور في المذهب أنه يكره أن يكون الإمام أعلى من المأمومين سواء أراد تعليمهم الصلاة أو لم يرد،وهو قول مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي،وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يُكره،فإن علي بن المديني قال:سألني أحمد عن حديث سهل بن سعد،وقال:إنما أردت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أعلى من الناس،فلا بأس أن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث.وقال الشافعي:أختار للإمام الذي يُعلِّم مَنْ خلفه أن يصلي على الشيء المرتفع،فيراه من خلفه فيقتدون به لما روى سهل بن سعد قال:(لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليه- يعني المنبر - فكبر وكبر الناس وراءه ثم ركع وهو على المنبر ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ثم أقبل على الناس فقال:أيها الناس إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي)متفق عليه]المغني2/41.
واحتج الفقهاء على كراهة ارتفاع الإمام على المأمومين بما ورد عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه كان يصلي بالمدائن فأُقِيمت الصلاة،فتقدَّم عمارٌ وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه،فتقدم حذيفة فأخذ على يديه،فأتبعه عمار حتى أنزله حذيفة،فلمَّا فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة:ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إذا أَمَّ الرجلُ القومَ فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم)أو نحو ذلك؟قال عمار:لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي)رواه أبو داود وحسنه العلامة الألباني.
وقال الشيخ ابن حزم الظاهري يجوز علوُّ الإمام على المأمومين مطلقاً وعكسه،حيث قال:[وجائزٌ للإمام أن يصلي في مكان أرفع من مكان جميع المأمومين،وفي أخفض منه،سواء في كلِّ ذلك العامة،والأكثر والأقل]المحلى4/ 84.
واحتج ابن حزم بحديث سهل السابق،فقال:[لا بيان أبين من هذا في جواز صلاة الإمام في مكان أرفع من مكان المأمومين، واحتج المخالفون بخبر فيه النهي عن صلاة الإمام في مكان أرفع من مكان المأمومين،وهو خبرٌ ساقطٌ ،انفرد به زياد بن عبد الله البكائي،وهو ضعيف.والخبر الذي أوردنا إجماعٌ من الصحابة بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم،فهذا هو الحجة لا الباطل الملفق]المحلى4/85-86.
وإن حصل أن صلى المأمومون أخفض من الإمام فلا تبطل صلاتهم ولا صلاته،قال الإمام الشافعي:[ولو كان– الإمام- أرفع منهم أو أخفض لم تفسد صلاته ولا صلاتهم]الأم 1/ 200.
وما قرره الفقهاء من كراهة ارتفاع الإمام عن المأمومين إنما هو في حالة الاختيار،وأما إذا كان هنالك عذرٌ أو حاجةٌ كما في ازدحام المصلين في الجمعة والعيدين،فلا بأس بذلك كما هو الحال في صلاة المصلين في المصلى المرواني أيام الجمعة والعيد.[وألاَّ يكون ذلك لضرورةٍ؛كضيق مكان أو نحوه،فإن كان شيءٌ من ذلك جازَ؛كعلوٍّ يسيرٍ على مأموم] شرح الخرشي على مختصر خليل2/ 169.
وقال العلامة محمد العثيمين:[لا بأس أن يرتفع الإمام عن المأمومين،وقيده بعض العلماء إذا لم يكن من الذراع فأكثر،والصحيح:أنه لا يقيد ما دام أنه يمكن المتابعة،ثم إن علو الإمام عن المأمومين عندنا لا يمكن أن يتحقق على الوجه الذي ذكره الفقهاء؛لأن الإمام سيكون معه أحدٌ في مكانه،والفقهاء الذين كرهوا أن يكون الإمام عالياً يريدون إذا انفرد في مكانٍ وحده هو فوق والناس تحته،وهذا شيءٌ لا يوجد في وقتنا الحاضر،أي:لا تجد إماماً عالياً إلا ومعه جماعةٌ،وحينئذٍ لا كراهة،والعكس لا بأس به،أي وعلو المأموم لا بأس به]مجموع فتاوى ورسائل العثيمين 13/43.
وقال الشيخ صالح الفوزان جواباً على سؤال نصه:[هل يؤثر على صحة الصلاة كون مكان الإمام مرتفعاً على مكان المأمومين أم لا يؤثر هذا؟الإجابة:هذا فيه تفصيلٌ؛إن كان الإمام وحده فإنه يسمح بارتفاعه ارتفاعاً يسيراً كدرجات المنبر مثلاً،فالنبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر وهو يصلي ونزل.‏فالعلو اليسير إذا كان الإمام وحده لا بأس به.أما العلو الكثير فلا يجوز للإمام أن ينفرد به عن المأمومين.أما إذا كان مع الإمام غيره من المصلين فلا بأس بالعلو ولو كان كثيراً،فيجوز مثلاً أن يكون الإمام في الطابق الأعلى وهناك من يصلي خلفه في الدور الثاني الذي تحته]. أنظر 
وقال الشيخ عبد المحسن العباد:[وإذا كان الإمام ومعه بعض المأمومين في مكانٍ متساوٍ ثم كان بعض المأمومين في مكانٍ منخفضٍ،كأن يكونوا في بدروم أو في مسجدٍ عدة طوابق،وصلى الإمام ومن معه في الدور الأعلى وغيرهم صلى في الأدوار التي تحت،فلا بأس بذلك؛لأن هذا تدعو الحاجة إليه،فكون الإمام ومعه بعض المأمومين يكونون في مكان عالٍ وبعضهم في مكانٍ منخفضٍ لا بأس بذلك،وإنما المحذور أن يكون الإمام له مكانٌ مرتفعٌ خاصٌ به يصعد عليه ويصلي بالناس وهم تحته،هذا هو الذي يدل عليه هذا الحديث،أما أن يكون الإمام ومعه مأمومون في مكانٍ مستوٍ ثم يأتي مأمومون آخرون بعدما يمتلئ المسجد فيصلون في السطح أو في الدور الأسفل،فلا بأس بذلك،ولا مانع منه] شرح سنن أبي داود.عن موقع الشاملة.
رابعاً:
ذكر أهل العلم ضابطاً لصحة الاقتداء بالإمام وهو سماع تكبيره أو تكبير المصلين،قال الإمام النووي:[يشترط لصحة الاقتداء علم المأموم بانتقالات الإمام،سواء صليا في المسجد،أو في غيره...وهذا مجمعٌ عليه،ويحصل له العلم بذلك،بسماع الإمام،أو من خلفه،أو مشاهدة فعله،أو فعل من خلفه]المجموع 2/201.
وهذا الأمر متحقق في الصلاة في المصلى المرواني،حيث يسمع المصلون تكبيرات الإمام بمكبرات الصوت.وبشرط اتصال الصفوف.
وخلاصة الأمر أن المصلى المرواني جزءٌ من المسجد الأقصى المبارك،ويقع أسفل الجهة الجنوبية الشرقية من المسجد الأقصى المبارك. وأن الأصل المقرر عند الفقهاء في أحكام في العبادات هو التوقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم،فلا يثبت شيءٌ من العبادات إلا بدليل من الشرع. وأن الفقهاء قد اختلفوا في مسألة ارتفاع الإمام على المأمومين في الصلاة فكرهوا ذلك من غير عذرٍ وحاجةٍ،وإن حصل أن صلوا أخفض من الإمام فلا تبطل صلاتهم، وأن من العذر والحاجة الازدحام في المساجد وتعدد طبقات المسجد.وأن أهل العلم ذكروا ضابطاً لصحة الاقتداء بالإمام هو سماع تكبيره أو تكبير المصلين، وهذا الأمر متحقق في الصلاة في المصلى المرواني،حيث يسمع المصلون تكبيرات الإمام بمكبرات الصوت.وبناءً عليه تصح الصلاة في المصلى المرواني ما دام هنالك حاجةٌ وما دامت الصفوف متصلةً.
والله الهادي إلى سواء السبيل