الجمعة، 23 مايو 2014

خطورة الاستهزاء بالدين وحكم المستهزئ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، وعلى آله وصحبه والتابعين:
أمَّا بعد:

فإنَّ المحافظة على صحة الدين من أهم ما يجب على المسلم، ولذا يتعيَّن على المسلم أن يعرف الأمور التي تنقض ذلك حتى يجتنبها ويحذر من الوقوع فيها.
ومن نواقض الإسلام التي تساهل فيها كثير من الناس في هذا الزمان الاستهزاء بالله عز وجل وبالرسول صلى الله عليه وسلـم وبدين الإسلام، فالواجب على المسلم أن يعرف ما يتعلَّق بهذا الناقض، وأن يحذر من الوقوع فيه، وأن ينكر على من يقع فيه حسب استطاعته، حتى يسلم له دينه وتبرأ ذمته أمام الله جل وعلا.
والاستهزاء هو: انتقاص الرَّب سبحانه وتعالى والسخرية منه، أو انتقاص الرسول صلى الله عليه وسلـم والسخرية منه، أو انتقاص الدين والسخرية به .. نعوذ بالله تعالى من ذلك كله.

والدليل على أن هذا الاستهزاء من نواقض الإسلام ما يلي:

الأول- ما جاء في كتاب الله عز وجل:
 وهو قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) [التوبة: 65، 66] فهذه الآية فيها النصُّ الواضح على أنَّ من استهزأ بآيات الله عزَّ وجل أو برسوله صلى الله عليه وسلـم أنه كافر بالله العظيم.

والثاني- السنة:
والدليل على ذلك ما أخرجه ابن جرير (14/333) وابن أبي حاتم (6/1829) كلاهما من حديث هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلسك ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا ولا أكذب ألسُنًا، ولا أجبن عند اللقاء! فقال رجل في المجلس: كذبت ولكنك منافق، لأخبرنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلـم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلـم، ونزل القرآن، فقال عبد الله بن عمرو: أنا رأيته متعلِّقًا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلـم تنكبه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض و نلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلـم يقول: (أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) [التوبة: 65].

وهذا الإسناد إسناد حسن لا بأس به، فهشام بن سعد لا بأس به، وبالذات في زيد بن أسلم، وزيد بن أسلم اختلف في سماعه من ابن عمر، والصواب: أنه سمع منه فقد صرح في بعض الأحاديث بالسماع منه.

والثالث- إجماع المسلمين قاطبة:
على أنَّ الاستهزاء بشيءٍ من الدين كفر أكبر مخرج من الملَّة، وقد نقل هذا الإجماع بعض أهل العلم ومنهم أبو بكر بن العربي، والشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على الجميع.
قال أبو بكر بن العربي في «أحكام القرآن» (2/543):

«لا يخلوا أن يكون ما قالوه من ذلك جِدًّا أو هزلاً، وهو كيفما كان كُفر؛ فإن الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمَّة، فإنَّ التحقيق أخو الحق والعلم، والهزل أخو الباطل والجهل» اﻫ.

وقال الشيخ سليمان بن عبد الله في كتابه «تيسير العزيز الحميد» (553):
«باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلـم، أي: أنه يكفر بذلك لاستخفافه بجناب الربوبية والرسالة، وذلك منافٍ للتوحيد، ولهذا أجمع العلماء على كُفر من فعل شيئًا من ذلك، فمن استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله أو بدينه كفر، ولو هازلاً لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعًا» اﻫ.

وينبغي التنبيه هاهنا على مسائل:

المسألة الأولى: حكم من حضر الاستهزاء.
هذا له ثلاث حالات:

الأولى: أن ينكر على هذا المستهزئ، وهذا قد فعل الواجب عليه.

والثانية: أن يقوم ولا يجلس مع المستهزئ، وهذا يكون قد امتثل قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [الأنعام: 68].

والثالثة: أن يجلس ويسكت ولا ينكر وهو عالم بالحكم، فهذا يكون كافرًا والعياذ بالله بنصِّ القرآن الكريم. قال تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) [النساء: 140].
فقوله: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) [النساء: 140] يدلُّ على أنه كافر والعياذ بالله.

وأيضًا ممَّا يدلُّ على ذلك قوله تعالى: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) [التوبة: 66].
ومن المعلوم أنَّ الذين استهزءوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلـم لم يستهزئوا كلهم، بل تكلّم اثنان وسكت الثالث، ولكنه لم يُنكر ولم يفارقهم، فأصبح حُكمه كحكمهم، ولذا نزلت الآية الكريمة بالحكم على جميعهم بالكفر كما قال تعالى: (لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة: 68]
ثم قال تعالى: (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً) [التوبة: 66]
إشارة إلى هذا الثالث الذي تاب توبةً صادقةً؛ فتوبته الصادقة منعت العذاب عنه.
قال القرطبي في «جامعه» (5/418):
 «قوله تعالى: (فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أي: غير الكفر (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) فدلَّ بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأنَّ من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم والرضا بالكفر كفر، قال الله عز وجل (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ).
فكلُّ من جلس في مجلس معصية ولم يُنكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلَّموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.

المسألة الثانية: حالات المستهزئ بالله أو الرسول صلى الله عليه وسلـم أو دين الإسلام.

المستهزئ بالله أو الرسول صلى الله عليه وسلـم أو دين الإسلام له ثلاث حالات، وكلُّ حالة لها حُكم.

الأولى: أن يكون معتقدًا للسخرية والاستهزاء ومصدقًا بذلك، والاعتقاد هو عقد القلب على شيءٍ ما.

والثانية: أن يكون عن قصد ولكن بغير اعتقاد، وقد سبق حديث ابن عمر في الرجل الذي كان في مجلس و قال: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء! فقال رجل في المجلس، كذبت ولكنك منافق، لأخبرنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلـم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلـم، ونزل القرآن فقال عبد الله بن عمر: أنا رأيته متعلقًا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلـم تنكبه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلـم يقول: (أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) [التوبة: 65].

ففي هذه الآية الحكم بكفرهم، وهؤلاء، إن كانوا معتقدين لما قالوه فيكون استهزاؤهم عن اعتقاد, وإن كان كلامهم هذا ليس ناشئًا عن تصديق واعتقاد بأن الرسول صلى الله عليه وسلـم ومن معه على هذه الصفة، وإنما قالوا ذلك مزحًا لا غير، فيكون كلامهم من قبيل الكذب والسخرية.
وهذا هو الذي حصل من هؤلاء النفر، فهم إنما كانوا يسخرون ويكذبون على سبيل المزح([1])، ولذلك قال الله عز وجل: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) [التوبة: 65] فهؤلاء قصدوا الاستهزاء ولكن لم يعتقدوه.
وحكم المستهزئ القاصد للاستهزاء، سواء كان معتقدًا أو غير معتقد واحد، وهو أنه يكون كافرًا بالله العظيم؛ لأنه لا يمكن أن يجتمع الاستهزاء مع الإيمان بالله عزَّ وجل، فلا يمكن أن يكون الإنسان عنده إيمان ويستهزئ بالله أو برسوله أو بدينه، ولذلك قال الله عز وجل: (لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة: 66] ولكنَّ الاستهزاء مع الاعتقاد يكون أشد كفرًا من الاستهزاء بدون اعتقاد.

الثالثة: أن يكون الاستهزاء عن سبق لسان وخطأ، كأن يريد الإنسان أن يقول كلمة ليس فيها استهزاء فيسبق لسانه إلى كلمة أخرى فيها استهزاء، خطأً من غير قصد، فهذا لا يؤاخذ بذلك.
ومما يدلُّ على ذلك: ما رواه مسلم (2747) من حديث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلة بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح، "اللهم أنت عبدي وأنا ربك"، أخطأ من شدة الفرح».
فهذا لم يؤاخذ بذلك، لأنه لم يكن قاصدًا لهذه الكلمة، وإما سبق لسانه إليها خطأ.

المسألة الثالثة: أقسام الاستهزاء.
الاستهزاء ينقسم إلى نوعين:

النوع الأول: الاستهزاء الصريح، وهو الذي يكون بالقول الصريح كما حصل من النفر الذين قصَّ الله خبرهم, ومن أمثلة ذلك الضحك على شعائر الدين ووضع الطرائف عليها, كالضحك من الأمر بتقصير الثوب, وإعفاء اللحية, ونحو ذلك.
والنوع الثاني: الاستهزاء غير الصريح، وهو في الغالب يكون بالفعل؛ مثل أن يحرك لسانه بقصد السخرية والانتقاص، كأن يذكر الرسول صلى الله عليه وسلـم عنده؛ فيحرك لسانه يريد الانتقاص منه عليه الصلاة والسلام أو من قوله، أو يحرك حاجبه تقليلاً من شأنه صلى الله عليه وسلـم؛ فهذا من الاستهزاء غير الصريح.
وقد يكون الاستهزاء الفعلي في بعض الأحيان صريحًا كما لو حرَّك الإنسان يديه بصورة واضحة بقصد الاستهزاء، والله أعلم.

المسألة الرابعة: تنبيه لأقارب المستهزئ من زوجة وأولاد ونحوهم وأصحابه.

يحرم على زوجة المستهزئ إذا لم يتب أن تمكنه من نفسها؛ لأنه باستهزائه أصبح مرتدا، وبعدم توبته أصبح مصرا على ذلك، وبالتالي أصبح أجنبيا عنها.
وأما أقاربه من آباء وأبناء وإخوان وأصحاب، فيتأكد عليهم أن يذكروه بالله تعالى, ويدعونه إلى التوبة؛ فإن أبى فيجب عليهم أن يهجروه في الله ويقاطعوه إلا أولاده، فيصاحبونه بالمعروف كما قال تعالى (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا).
والله تعالى أعلم.

(تمّ المراد مختصراً من رسالة في خطر الاستهزاء بالدين للشيخ المحدث عبدالله بن عبدالرحمن السعد.)
 
___________________________________


([1]) وقد جاء ذمُّ الذي يكذب من أجل إضحاك الناس، كما روى الإمام أحمد (5/2، 5، 7) وأبو داود (4990) والترمذي (2315) والنسائي في «الكبرى» (11126) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلـم قال: «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له».