الأربعاء، 30 أكتوبر 2013

مسائل في الاستثناء في الإيمان

سُئل الشيخ حمد بن عتيق، عن قول الفقهاء: (من قال؛ أنا مؤمن إن شاء الله، إن نوى به في الحال؛ يكفر، وإن نوى به في المآل؛ لم يكفر)؟!

* * *
فأجاب:

هذا سؤال من لا يحسن السؤال.

فإن ظاهره؛ أن جميع الفقهاء يقولون ذلك، ومن له خبرة بأقوال الفقهاء، تحقق أن هذه مجازفة عليهم، وقول بلا علم؛ فإن كان بعض المتأخرين، من بعض أهل المذاهب، قال ذلك؛ فهو قول محدث، من أقوال أهل البدع، وأنا أذكر لك من كلام العلماء، في الاستثناء في الإيمان، وهو قول الرجل؛ "أنا مؤمن إن شاء الله"، ليتضح الخطأ من الصواب، ويعلم من الأولى بالحق في هذا الباب.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وأما الاستثناء في الإيمان، بقول الرجل؛ أنا مؤمن إن شاء الله، فالناس فيه على ثلاثة أقوال؛
  • منهم: من يوجبه.
  • ومنهم: من يحرمه.
  • ومنهم: من يجوز الأمرين، باعتبارين، وهذا أصح الأقوال.

    فالذين يحرمونه؛ هم المرجئة والجهمية ونحوهم، ممن يجعل الإيمان شيئاً واحداً، يعلمه الإنسان من نفسه، كالتصديق بالرب، ونحو ذلك مما في قلبه، فيقول أحدهم: "أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني قرأت الفاتحة"، فمن استثنى في إيمانه، فهو شاك فيه عندهم.

    وأما الذين أوجبوا الإستثناء؛ فلهم فيه مأخذان، أحدهما: أن الإيمان، هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً وكافراً باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وهو مأخذ كثير من المتأخرين، من الكلابية، وغيرهم ممن يريد أن ينصر ما استشهد عليه أهل السنة والحديث، من قولهم: "أنا مؤمن إن شاء الله"، ويريد مع ذلك؛ أن الإيمان لا يتفاضل، ولا يشك الإنسان في الموجود منه، وإنما يشك في المستقبل، وهذا وإن علل به كثير من المتأخرين، من أصحاب الحديث، من أصحاب أحمد، ومالك، والشافعي، وغيرهم، فما علمت أحداً من السلف علل به الاستثناء).

    قلت: فالمرجئة، والجهمية، يحرمون الاستثناء في الحال والمآل، وهؤلاء يبيحونه في المآل، ويمنعونه في الحال.

    قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والمأخذ الثاني في الاستثناء؛ أن الإيمان المطلق، يتضمن فعل ما أمر الله به كله، وترك المحرمات كلها، فإذا قال الرجل: "أنا مؤمن" بهذا الإعتبار، فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين، القائمين بفعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، وشهادته لها بما لا يعلم، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة، لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال.

    وهذا مأخذ عامة السلف، الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر.

    وروى الخلال، عن أبي طالب قال: سمعت أبا عبد الله، يقول: (لا نجد بداً من الاستثناء، لأنهم إذا قالوا مؤمن، فقد جاءوا بالقول، فإنما الاستثناء بالعمل، لا بالقول).

    وعن إسحاق بن إبراهيم، قال سمعت أبا عبد الله، يقول: (أذهب إلى حديث ابن مسعود، في الاستثناء في الإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول، ونخشى أن نكون فرطنا في العمل، فيعجبني أن يستثني في الإيمان، فيقول؛" أنا مؤمن إن شاء الله")، ومثل هذا كثير من كلام أحمد وأمثاله.

    وهذا مطابق لما تقدم، من أن المؤمن المطلق، هو القائم بالواجبات، المستحق للجنة، إذا مات على ذلك، وأن المفرط بترك المأمور أو فعل المحظور، لا يطلق عليه أنه مؤمن، وأن المؤمن المطلق؛ هو البر التقي، ولي الله، فإذا قال: "أنا مؤمن قطعاً"، كان كقوله؛ "أنا بر، تقي، ولي لله قطعاً".

    وقد كان أحمد، وغيره من السلف، مع هذا، يكرهون، سؤال الرجل غيره؛ أمؤمن أنت؟ ويكرهون الجواب، لأن هذا بدعة، أحدثها المرجئة، ليحتجوا بها لقولهم، فإن الرجل يعلم من نفسه أنه ليس بكافر، بل يجد قلبه مصدقاً لما جاء به الرسول، فيقول: أنا مؤمن، فلما علم السلف مقصودهم، صاروا يكرهون السؤال، ويفصلون الجواب.

    وهذا لأن لفظ الإيمان، فيه إطلاق، وتقييد، فكانوا يجيبون بالإيمان المقيد، الذي لا يستلزم أنه شاهد لنفسه بالكمال.

    ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يقال: أنا مؤمن بلا استثناء، إذا أراد ذلك، لكن ينبغي أن يقرن كلامه، بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق الكامل، ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء).

    قلت: فظهر القول الثالث، الذي هو الصحيح، وهو؛ أنه إذا قال: أنا مؤمن، فإن أراد بذلك، الإيمان المقيد، الذي لا يستلزم للكمال، جاز له ترك الاستثناء، وإن أراد المطلق، المستلزم للكمال، فعليه أن يستثنى في ذلك.

    قال الخلال: أخبرني حرب بن إسماعيل، وأبو داود؛ قال أبو داود: سمعت أحمد قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: (إذا سئل المؤمن، أمؤمن أنت؟ لم يجبه، ويقول: سؤالك إياي بدعة، ولا شك في إيماني)، وقال: (إن شاء الله ليس يكره، ولا يدخل الشك)، وقد أخبرني عن أحمد أنه قال: (لا نشك في إيماننا، وأن السائل لا يشك في إيمان المسؤول)، وهذا أبلغ، وهو إنما يجزم بأنه مقرّ مصدّقٌ بما جاء به الرسول، لا يجزم بأنه قائم بالواجب.

    فعلم أن أحمد وغيره من السلف، كانوا يجزمون، ولا يشكون في وجود ما في القلب من الإيمان في هذه الحال، ويجعلون الاستثناء عائداً إلى الإيمان المطلق المتضمن فعل المأمور - هذا ملخص كلامه في كتاب "الإيمان".

    وقال في موضع آخر: (والناس لهم في الاستثناء ثلاثة أقوال؛

  • منهم: من يحرمه، كطائفة من الحنفية، ويقولون: من يستثنى فهو شاكُّ.
  • ومنهم: من يوجبه، كطائفة من أهل الحديث.
  • ومنهم: من يجوزه، أو يستحبه، وهذا أعدل الأقوال.

    فإن الاستثناء له وجه صحيح، وتركه له وجه صحيح، فمن قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وهو يعتقد أن الإيمان فعل جميع الواجبات، ويخاف أن لا يكون أتى بها، فقد أحسن.

    ومن اعتقد؛ أن المؤمن المطلق هو الذي يستحق الجنة، فاستثنى، خوف سوء الخاتمة، فقد أصاب.

    ومن استثنى – أيضاً - خوفا من تزكية نفسه أو مدحها، أو تعليقاً للأمر بمشيئة الله تعالى، فقد أحسن.

    ومن جزم بما يعلمه من التصديق في ترك الاستثناء، فهو مصيب).

    فتبين بما ذكرناه من الكلام الذي قدمناه؛ أن هذا الإيراد قول غير معروف عند العلماء المقتدى بهم، فضلاً عن أن يكون الفقهاء كلهم قد قالوه، وإذا كان الأمر كذلك، وظهر كلام من يعتد به، وما هو الصواب منه؛ فلا حاجة بنا إلى معرفة الأقوال المبتدعة.

    * * *
    المسألة الثانية:

    وهي قول السائل؛ ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم من قال: (أنا مؤمن، فهو كافر، ومن قال: أنا في الجنة، فهو في النار)؟

    فالذي وقفت عليه؛ أن هذا من كلام عمر، كما رواه الإمام أحمد، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: (من قال؛ أنا مؤمن، فهو كافر، ومن قال؛ هو عالم، فهو جاهل، ومن قال؛ هو في الجنة، فهو في النار).

    وأنت لم تذكر له إسناداً، ولا نسبة إلى أصل، وقد علم أنه لا يجوز لأحد أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً بمجرد وجود سواد في بياض، وتفصيل ذلك معروف في كتب أهل العلم والحديث.

    وأما مراد عمر...

  • فقد قال بعض الناس: إن المراد، إذا قال أنا مؤمن - أمناً من مكر الله وتألياً على الله –

  • وقال بعضهم: أي من قال؛ أنا مؤمن بالطاغوت، فهو كافر بالله، وكذلك من قال: هو في الجنة قطعاً، تكذيباً بحديث "الأعمال بالخواتيم".

    وقيل غير ذلك من الأقوال البعيدة الضعيفة.

    وأما أنا فأقول؛ الله أعلم بمراد الخليفة الراشد، ولا أعلم في ذلك شيئاً، تطمئن إليه النفوس، ولا يستحي من سئل عما لا يعلم، أن يقول؛ لا أعلم، فالله أعلم.

    * * *
    المسألة الرابعة:

    قوله؛ هل يجوز للإنسان أن يحدث نفسه، بقول: أنا منافق؟ أنا أخشى الكفر؟ وهل هذا شك في الدين؟ أم لا؟

    الجواب:

    قال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: (أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إن إيمانه، كإيمان جبرائيل، وميكائيل).

    وقال ابن القيم: (تالله لقد قطع خوف النفاق قلوب السابقين الأولين، لعلمهم بدقه وجله وتفاصيله وجمله، ساءت ظنونهم بنفوسهم، حتى خشوا أن يكونوا من جملة المنافقين).

    قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يا حذيفة! ناشدتك الله، هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم؟)، فيقول: (لا، ولا أزكي بعدك أحداً).

    يعني؛ لا أفتح هذا الباب، في تزكية الناس، ليس معناه؛ أنه لم يبريء من النفاق غيره، وكيف يكون ما هو من صفات السابقين الأولين شكا في الدين؟

    وعن الحسن البصري - في النفاق -: (ما أمنه إلا منافق، ولا خافه إلا مؤمن).

    وقال ابن القيم، رحمه الله: (وبحسب إيمان العبد ومعرفته، يشتد خوفه أن يكون منهم، ولهذا اشتد خوف سادة الأمة وسابقيها على أنفسهم، أن يكونوا منهم) انتهى.

    فكلما زاد الإيمان؛ اشتد الخوف من النفاق، وعلى حسب ضعف الإيمان يكون الأمن منه.

    وأما خوف الكفر، فيكفي فيه قول الله تعالى إخباراً عن خليله إبراهيم: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام}، وهو يدل على شدة خوفه من هذا الأمر.

    وفي الدعاء المأثور: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر، وعذاب القبر، وأن أردّ إلى أرذل العمر).

    واعلم؛ أن كون الإنسان، يشتد خوفه من الكفر والنفاق، ويكثر البحث عن أسبابهما، ونحو ذلك، هو أمر غير التلفظ به، وكونه يقول: أنا منافق، فذاك لون، وهذا لون.

    [الدرر السنية: ج1/ ص 551 - 558]