الجمعة، 22 مارس 2013

بين قوله تعالى ( بِـهِ ) وقوله ( لَهُ ) يتّضح لكل مسلم ما عليهِ وما لَهُ

    

آيتان كريمتان في كتاب الله تعالى من تدبّرهما وقف على روعة الإعجاز الفكريّ الذي حوته طياتـُهُما ؛ إنهما قوله تعالى على لسان فرعون في سورة الأعراف حينما وقع الحق وبطل ما كان فرعون وسحرته يكيدون ، ولم يملك سحرته إلا أن يخرّوا لله ساجدين ! فما كان من فرعون طاغية العصر- ومضرب المثل في التمرّد والطغيان والظلم والاستبداد في كل عصر – إلا أن قال لهم ( آمنتم به قبل أن آذن لكم ) ويتكرّر المشهد نفسه في سورة طه  وحينها يطالعك قول فرعون ( آمنتم له قبل أن آذن لكم ) فعدل في هذا السياق عن قوله ( به ) إلى قوله ( له ) لتضيف هاتان العبارتان إلى قاموس الإصلاح والمصلحين في كل عصر وحين ، الذين ينشدون التغيير الصادق نحو الأفضل والأكمل تضيف فكرة جديدة مفادها : أنه لن ينجح أيّ توجّه نحو التغيير والإصلاح إلا إذا عاش المصلحون  فرادىً كانوا أو  جماعات مرحلة ( به ) قبل مرحلة  ( له) على أحسن وجه وأتمّه وأكمله !
  وحتى لا ينقدح في ذهن عزيزي القارئ أن ما أسطّره هنا هو من قبيل الأحاجي والألغاز، فإنني سأبادر إلى توضيح ما حوته هاتان الكلمتان الموجزتان المبنى من عظيمِ معنى وواسعِ مغزى !
    فآية سورة الأعراف (آمنتم به)  كانت في أول مواجهة يعرضها القرآن الكريم بين نبيّ الله موسى – عليه السلام – وبين الطاغية فرعون ، فعندها قال فرعون بحق هذا النبيّ الكريم المصلح العظيم عليه الصلاة والسلام قال متسائلا مستنكراً( آمنتم به ) أي بالشخص ذاته ليعطينا هذا التصريح دلالة واضحة راسخة طأطأ لها رأس أعظم طاغية في التاريخ فما لبث أن أجراها على لسانه وتفوّه بها وهو في أوج جبروته وغيظه وحقده ( آمنتم به ) ليدلّنا ذلك على أن الخطوة الأولى على طريق نجاح الإصلاح والمصلحين أن يؤمن الناس ( بهم )أي بالمصلحين؛ يؤمنوا بما حملوه بين جنباتهم من نفوس نقـيّة ، وقلوب تقـيّة ،  وخصائص علويّة ، وسمات ربانية،  ونوايا صادقة بهية  ، ومقاصد حسنة سنيّة ، تجعل الناس مهما تنوعّت مشاربهم أو حتى استبدّ طغيانهم  لا يملكون إلا أن يسلّموا بخيرة هذه الصفوة التي تصدّرت للإصلاح ! وقد هال فرعون وأخافه أن يؤمن قومُه بادئ ذي بدء بشخصيّة موسى عليه السلام ، لأنّ مَنْ  آمن بذات الشخص واعتقد صدقها وصلاحها ونزاهتها وغَيْرتها على مصالح الخلق سوف ينتقل لا ريب إلى الإيمان بالمرحلة التالية من دعوة المصلحين ألا وهي مرحلة ( آمنتم له ) وهي مرحلة أشد وأنكى على الطغاة من سابقتها ،لأن مرحلة ( آمنتم له ) هي مرحلة  التسليم والانقياد لبرنامج هذا المصلح ودعوته التي يصدع بها  ، وبالتالي الانسلاخ التام من البرامج والتشريعات التي خيّمت على رؤوس الناس رغباً أو رهباً ردحاً  من الزمن ؛ رغباً ببيع الذمم أمام عروض الدنيا الزائلة فيغضّوا الطـّرف عن نقيصتها ! ورهباً : خوفاً من سياسة الحديد والنار التي ما فتئ يلوّح به الطغاة في كل زمان ومكان ، ويذيقوا الناس سطوتها ...
   ففي ضوء ما سبق يتبيّن لنا أنّ مرحلة ( آمنتم به) تعني الإيمان بذات الشخص المصلح ، والقناعة التامة به لِما قام فيه من مبادئ وقيم وَمُثـل وأخلاق، وتجسّد فيه من صدق في الولاء ، ومصداقـيّة في الانتماء ، فيما مرحلة (آمنتم له) تعني التسليم والانقياد للمنهج الذي يدعو إليه هذا الداعية المصلح !
     ومن تأمّل كتاب الله تعالى وجده قد نوّه ( بمرحلة به)  وأثار الانتباه إليها لما لها من أهمية في تأسيس القناعات الإيجابية تجاه المصلحين تمهيداً للانتقال بالمدعوين إلى مرحلة ( آمنتم له ) ، وفي هذا السياق جاء قوله تعالى على لسان نبينا محمّد – صلى الله عليه وسلم -  ( فقد لبثت فيكم عُمُرَاً من قبله أفلا تعقلون )يونس 16 فهي دعوة صريحة إلى القوم للتحاكم إلى سيرة النبي ّ - عليه الصلاة والسلام – وشمائله الكرام ، فهي مرحلة ( آمنتم به ) ، لأن القوم المدعوين قد درجوا ابتداء في غضون استماعهم إلى دعوات الإصلاح الى محاكمة المصلح في مقوّمات شخصيته وسيرته ! تماماً كما قالت ثمود لنبيهم صالح - عليه السلام - : ( قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجُوّاً قبل هذا ) هود 62  وقوم شعيب يقولون له : ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) هود87  فقد لمسوا حلمه ورشده من خلال سِني عمره التي قضاها بين أظهرهم ! وعموماً فجلّ الأقوام جاءتهم رسلهم من بينهم ، ليعي هؤلاء الأقوام في رسلهم  مرحلة (به)إذ هم مطلّعون لا ريب على سيرة هذا النبيّ الكريم ومسيرته قبل البعثة إليهم ، وذلك للإيناس والاستئناس بهذه المرحلة تمهيداً للانتقال إلى مرحلة ( له ) أي مرحلة التسليم والانقياد لدعوته ومنهجه الإصلاحيّ .
   وبذا تجدر الإشارة إلى أن أكثر ما يخيف الطغاة أن يعيش المصلحون مرحلة (به) على حقيقتها فيعطونها حقّها ومستحقّها بكل أمانة وإخلاص ، فهي تمثّل تهديداً حقيقياً لعروشهم ، لذا ما فتئوا يحاولون  صرف الناس عن التلبّس بهذه المرحلة بالإغواء تارة ، كما كشف ذلك قوله تعالى : ( ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيما ) النساء 27  ، وبالإيذاء تارة أخرى كما جلاّه قوله تعالى على لسان قوم لوط  : ( أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهّرون ) الأعراف 82 ، وحسبك شاهداً في هذا السياق أنّ نبيّ الله شعيباً – عليه السلام – قد اقترح على قومه الذين ناصبوه العداء قائلا لهم : ( وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ) الأعراف 87 فقد دعاهم إلى المتاركة والمسالمة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا ! فماذا كان ردّ القوم عليه ؟! ( قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا ) الأعراف 88 وما ذاك إلا لأنه بمجرّد انحياز المصلحين لهذه المرحلة مرحلة ( به ) واصطباغهم بها مُؤْذن بانحياز الناس إليهم وتفاعلهم مع مرادهم ، ومناصرتهم في مشروعهم الإصلاحيّ ؛ فسوف يشكّل المصلحون قدوة صامتة تستهوي القلوب وتلفت وعي ذوي الألباب ، حتى وإن لم يشهّروا بالباطل ، ولم يفتحوا فيما بينهم وبينه باب المعاركة والعداء ! فبمجرّد وجود أهل الحقّ وتشكيلهم بفكرهم النيّر  وسلوكهم الخيّر لمن حولهم قدوة صالحة بصدق وحقّ ، فذا من شأنه أن يُحرج أهل الباطل ، ويشكّل عليهم عِبئاً ثقيلاً فيضيقوا ذرعاً بوجوده !
  هذا وشاءت المقادير الربانية أن تجري هاتان العبارتان على لسان فرعون ! وليس ذاك فقط ،  بل وهو في أوج قوّته من حالة استنفار عسكريّ وأمني وفكريّ مخيف لم يشهد له في عالم الطواغيت من مثيل !! مع ذلك لم يطمئن فرعون إلى كلّ ما أعدّه من عُدّة وعتاد ، وما جيّشه من جيوش ، وجنّده من أجناد ! فإذا به يُفزعه ويُجزعه أن هذا النبيّ الكريم الذي أمامه قد اصطبغ بالمنهج الربانيّ فتوشّح  بالسمات الإيجابية والخصائص العُلْويّة ، وقوّة الجاذبيّة الفكريّة فضلا عن النفسية ، على نحو أدّى إلى استقطاب سحرة فرعون الذين شكّلوا في هذا المقام خطّ  الدفاع الأول عن فرعون ومشروعه وملكه وسلطانه ، فأتاه الله من حيث لم يحتسب ، فأذعن السحرة لموسى – عليه السلام -
    وبعد :  ففي ضوء ما تقدّم  فإن قصورنا وتقصيرنا كمسلمين في  مرحلة (به) على الصعيد الفردي أوالجماعي  يجعلنا فتنة لغيرنا من ذوي المِلل والنّحَل الأخرى   ؛ إذ كيف ستهوي عقولُ غيرِنا وأفئدتـُهم للاقتداء بنا والاهتداء ؟ أو الاطلاع على ما حبانا به ربّـنا من منهج قويم ؟ أو الانتصاف لنا و مناصرتنا في قضايانا إن كنا نحن لم نحقق في أنفسنا مرحلة ( به ) ؟ بمعنى : لم نغْدُ قدوة صالحة في سلوكنا وأخلاقنا ووفاقنا واتفاقنا، وعدلنا وعدالتنا فيما استُرعينا عليه من رعايا ، ونزاهتنا فيما استُؤمنا عليه من قضايا  ، على نحو يُبهر الآخرين بالمنهاج الذي اصطبغنا به فصاغنا هذه الصياغة ، وصنع منا هذه الصناعة ، فنتجت عنا تلكم البضاعة ؛ بضاعة الخير والبرّ والرحمة والإحسان بالبشرية جمعاء ؟؟!! التي بدونها  لن يرنو أحد إلى أن يؤمن لنا لأنه لم يؤمن بنا ابتداء ...
  وبهذا بين قوله تعالى ( بِهِ ) وقوله ( لَهُ) يتّضح لكل مسلم ما عليهِ وما لهُ .... ولما كان الحرّ تكفيه الإشارة فلا داعي لأن أستطرد أكثر في بســــــــــط العبارة !!