الجمعة، 31 أغسطس 2012

الرأس

  قصة قصيرة/ يوسف أدريس

"لازلت لا أفهم لماذا كنت شغوفا أيامها بالخروج إلى الحقول الواسعة والسير على شواطئ الترع أو البحث عن بيض اليمام والغربان فى عز الظهر. ربما كان السبب أنى كنت أمر بفترة الاضطراب التى تصاحبنا فى مرحلة البلوغ والمراهقة التى تدفعنا أحيانا لان نفعل أشياء لانفهمها ولايمكن تفسيرها.


كنت أدع البلدة راقدة تئن وتنبهت من حر الظهيرة … وأناسها يغطون فى نوم القيالة المتقطع وأخرج إلى الغيط ومعى غذائي، ويبهرنى ذلك العالم النباتى الواسع بسكونه ورهبته وغموضه. وكنت أظل أمشى وأنا أستمتع وحدى بالشمس الحارة وأتأمل على مهل تلك الساعات القليلة التى يسكن فيها كل شئ، حتى أوراق الشجر تكف عن الحفيف، والعمق فى الحقل يتوقف، والنبات يتحجر ساجياً خاشعاً لا حراك به، بل حتى الماء فى الترعة تجده يكاد يكف هو الآخر عن السريان. وأنا وسط هذا كله الوحيد الذى يتبرد ويتحرك دون أن يزجرنى زاجر أو يحد من حريتى إنسان، وأعظم ما كان يمتعنى هو رائحة الظهر، رائحة الأرض الظمأى حين يرويها الماء الفاتر فتمتصه ويتكون الطين والبواخ ويصبح للظهر رائحة الأرض الشاربة، وكأنها رائحة الحياة حين تدب فى التراب … لا زلت لا أعرف لماذا كنت شغوفا بهذا الخروج الشاذ، ولكن لولاة ما عثرت أبداً على رأس السمك التى ظللت حيناً طويلاً من الدهر أحلم بها وأتمناها.. وأنا من المغرمين بالسمك، السمك الحى، ذلك الحيوان المبطط المستطيل الغريب ذى العيون البارزة العارية الخالية من الجفون والحركة الشيطانية التى لا تهدأ.. وكلما رأيته حياً يجرى فى الماء، أو يتزفلط فى اليد حال خروجه منها أو عالقاً بالسناره يقفز ويتنطط ويتلوى لست أدرى كلما رأيته هكذا أعجب من الحياة التى قد تتجسد أحياناً على هيئة سمك يتحرك وينتفض ويتلوى ويدافع عن حريته إلى آخر رمق حتى ولو أضطره الأمر إلى استعمال حرابه وكهربته….
وطبعاً كانت لنا ونحن صغار أساطيرنا الكثيرة حول السمك، أساطير كنا نسمعها وأساطير كنا نشترك فى صنعها عن السمكة الجنية والقرموط المسخوط، والحيتان الكبيرة التى تحيا فى البحور الواسعة الغريقة والتى تبلغ من الضخامة إلى حد أن توجد فوقها جزر ينبت فيها الزرع ويحيا عليها الناس، ثم كيف تغوص تلك الحيتان أحياناً وتغوص معها الجزر ويغرق الناس. ولكننا - حتى ونحن صغار - كنا لا نصدق هذه الأساطير. كنا فقط نؤمن بحكاية رأس السمك إيمانا عميقاً لا يتزعزع إلا بين الحين والحين كانت ترد إلينا أنباء من القرى المجاورة عن ر جال عثروا على رؤوس أسماك وأنهم اصطادوها وباعوها وأصبحوا بثمنها من أغنى الأغنياء، ورأس السمك هذه ليست رأس سمكة واحدة، ولكنها تعبير يستعمل كناية عن قافلة ضخمة من السمك، إلا يبدوا أن هناك أنواعا بعينها من الأسماك تحيا على هيئة جماعات تجوب المياه فى قوافل ضخمة، والسعيد هو من يعثر على قافلة منها ويصطادها فالسمك الناتج عنها يكاد يملأ عدة زكائب تباع بمئات الجنيهات...
وفى ذلك اليوم كنت قد خرجت إلى الغيطان فى الظهر كالعادة وقد أخذت غذائى معى وكنت أسير على جسر المصرف الكبير الذى يستعمل لتخزين المياه الناتجة عن تصفية حقول الأرز، وكان المصرف يكاد يكون ممتلئاً إلى حافته بالماء، وماء هذا النوع من المصارف يكون قد فقد الكثير من طميه وأصبح رائقاً كالماء المقطر لولا بعض اصفرار يشوبه، ولولا إحساسك أنه ماء آمن راكد وكأنه ماء مريض أو حامض تجزع إذا رأيته ويلسع الجروح التى فى قدمك إذا فكرت فى وضعها فيه. كنت سائراً أقلقل كتل الطمى الناتجة عن تطهير المصرف واقذفها فيه فتحدث ضجات مكبوتة، وكأنها صرخة الماء حين يتألم. كنت ماشياً أغنى وأصفق وأتمنى فى قرارة نفسى أن أكون سعيد الحظ وأعثر على عش غراب أو يمام حين لمحت ذلك المثلث الرمادى يتحرك فى المصرف تجاهي. ولم أكن أبداً أتصور أن ذلك المثلث يمكن أن يكون رأس السمك التى طالما حلمت - كأى صغير - بالعثور عليها وأصطادها وحدى ومفاجأة أهلى وأهل بلدنا بها، لم أكن أتصور هذا لان الأسماك لا تفضل مياه المصارف. ولا يوجد فيها إلا الطحالب الصغيرة التى تسبح على السطح. ولكننى حقيقة فوجئت حين أمعنت النظر فى المثلث المقبل نحوى فوجدته قافلة سمك حقيقية. ومن هول الفرصة تلفت حولى لأصرخ أو أستغيث فى الناس، ولكننى وجدت الدنيا فاضية وكأن الناس جميعاً ماتوا ووجدت السكون الذى طالما أحببته يعم الكون، السكون الذى لا يقطعه إلا أزيز الدنيا حين لا تجد شيئاً تحمله إلا أن تئز ذلك الأزيز المتصل الطويل …
وجريت هنا وهناك، ورأيت القافلة من أمام ومن خلف وكدت أحاول خوض الماء، وضحكت ضحكات هستيرية ولكن فى الثوانى التالية كنت قد أدركت أن لا فائدة ترجى من صيد راس السمك فليس معى شئ من أدوات الصيد والمصرف غريق ولا أحد هناك يستطيع مساعدتى. وعلى هذا وجدت فرحتى واضطرابى تذوب كلها إلى نوع من الخيبة المتأملة. وقنعت من الغنيمة بالتفرج عليها. ولم تكن الفرجة بالأمر الصعب فالماء رائق، والقافلة تسير بسرعة ولكنى أستطيع ملاحقة سيرها. ومرة أخرى خاب أملى فلم أجد أن راس السمك مكونة من ملايين الأسماك ذات الحجم الهائل كما كنت أتصور. كانت عبارة عن بضع مئات من الأسماك الصغيرة أكبرها فى حجم الكف تكون عدة صفوف. النصف الأول مكون من سمكة واحدة والثانى سمكتين وهكذا. ومع صغرها فقد كان منظرها رائعاً. فالأسماك كانت متشابهة تشابه بيض الدجاج ذى الحجم الواحد لا تستطيع أن تفرق بين الواحدة والأخرى. وصفوفها كانت منتظمة. والأسماك ظهرها من أعلى رمادى مخضر وبطنها من أسفل أبيض يميل إلى الاحمرار وزعانفها دقيقة صغيرة شفافة تلمحها تعمل فى سرعة قصوى وبلا توقف وكأنها عشرات الألوف من مجاديف نيلونية التكوين تعمل على نفس الوقت بينما القافلة كالأسطول الصغير الماضى فى سرعة منتظمة ولا تزيد ولا تنقص وفى اتجاه واحد لا ينحرف يميناً أو يساراً وكأنها كتيبة منقادة فى مهمة مجهولة لا يعرف سرها أحد.
كنت أتتفرج مبهور الأنفاس مما أرى وكأنى أشاهد إحدى معجزات الكون أو أحد أسرار الوجود التى لا يطلع عليها إنسان وحرام أن يطلع عليها إنسان. وكنت مستعداً لمتابعة القافلة فى سيرها إلى آخر الدنيا مع أنى لم اكن اعرف من أين جاءت والى أين هى ذاهبة وماذا جعلها تسير فى ذلك المصرف بالذات. وفطنت إلى نفسى بعد برهة فوجدتنى أمشى فوق الجسر بمنتهى الحذر حتى لا تسقط أقدامى طوبا يخيف القافلة أو يعكر من صفو نظامها الغريب المذهل، عدت إلى نفسى فوجدتنى أفكر فى أمر محير. فأنا أعرف كما يعرف الناس كلهم أن السمك حيوان شديد الخوف، ما يكاد يلمح ظلا أو يرى ضوءا أو يسمع خرفشة ماء حتى يفزع ويغوص فوراً إلى الأعماق أو يدس نفسه فى الطين. وكنت قد لاحظت أن ظلى طوال الوقت يسقط على القافلة ومع هذا لم تفزع أسماكها ولم تشتت، بل ظلت تمضى وكأنها لاتلحظنى أو تلحظنى ولا تخاف منى أو من ظلى وكأن السمك هو الآخر يحس بالونس إذا وجد فى جماعة، حتى بدأت أخاف أنا منها … وقل هى عفرتة الصبية ورغبتهم فى بعث الفوضى فى أى شئ منتظم، أو على الأقل لأثبت وجودى، أو كرد فعل للخوف الذى بدأ يعترينى، الدافع غير مهم، المهم أننى وجدت نفسى التقط فجأة طوبة صغيرة والقيها فى وسط القافلة لأرى ما يحدث. وحدث ما توقعته فقد اضطربت الأسماك التى فى وسط القافلة، وخافت بعض منها وطارت، ولكن وربما لأن السمكة التى على راس القافلة ظلت ماضية فى طريقها لا تميل ولا تضطرب وجدت اسماك القافلة التى فى الوسط تعود سريعا من رحلة خوفها وتنظيم صفوفها وتعود القافلة إلى ماضيها وكأن شيئا ما يحدث.
وغافلتنى تلك السمكة التى فى المقدمة والتى هى ماضية فى طريقها لا تلين ولا تخاف ولا تميل، من أين جاءها كل ذلك الحماس، وكيف هى سائرة هكذا كالقائد الحكيم الذى يعرف تماما مقصده والطريق إليه؟
ولماذا هى القائدة بالذات وكيف وقع اختيار السمك عليها لتقود وهل لها مميزات معينة رشحتها لتلك المكانة؟
رحت أراقبها بدقة وأحصى عليها حركاتها وسكناتها على أمل أن أجد فيها شيئاً لا يوجد فى بقية الأسماك.، ولكنى لم أجد شيئا من هذا. كان لها نفس الحجم ونفس اللون والتكوين، ونفس الفم الدقيق الذى لا ينى عن ابتلاع الماء وضايقتنى تلك السمكة إلى درجة أنى بدأت أحار بها حربا غير عاديه، فغذائى كان معى كما قلت وكان فيه رغيف، وكنت قد لاحظت أن القافلة ماضيه فى مياه المصرف لا يعوقها عالق وأسماكها لا تأكل ولا تلتفت إلى الحشائش المنبتة على الجانبين وكأنها صائمة،كل ما فى الأمر أن بعض الأسماك الموجودة فى المصارف الأخيرة كانت تتلكأ أحيانا تقضم قضمه من نبات ولكنها لاتلبث أن ترد بسرعة إلى صفوفها.. وكنت أعرف أن السمك يحب الخبز، وكنت طبعاً لا أتوقع أى نجاح لخطتى خاصة بالنسبة للسمكة التى فى المقدمة ولكنى قلت فى نفسى أحاول. وهكذا قطعت لقمه من الرغيف وقذفت بها أمام القافلة.. ووصلت السمكة إلى القمة ومرت بجوارها وتجاوزتها وكأنها لا تراها.. ولم أيأس. وقطعت قطعه أخرى وقذفتها وأيضا لم تعرها السمكة أى التفات.. ولا أذكر كم لقمه قطعتها وألقيتها هكذا ولكن فى ذات مرة قضمت السمكة قضمة صغيرة من إحداها دون أن تحييد عن طريقها. وفرحت، وقطعت قطعه أكبر من الرغيف، وقذفتها أمام القافلة بمسافة لتكون قد (باشت) حين تصلها السمكة، وفعلا حين وصلتها قضمت منها قضمه، ثم عادت وقضمت منها مره أخرى ولكنها فعلت هذا على عجل ولم تلبث أن عادت إلى مكانها على رأس القافلة بسرعة. وبلغ بى الحماس أشده فرميت باقى الرغيف، وما كاد يمتص الماء، ويبدأ فى الغوص حتى كانت القافلة قد وصلته وحين لمحته السمكة نتشت منه قضمة، ثم ما لبثت أن تخلفت عن مكانها وأخذت تدور حول الرغيف وتقضم وكأنها استمرأت طعمه.. وتوقعت حينئذ أن يحدث ما أردته من زمن طويل فيضطرب نظام القافلة وتتبعثر أسماكها وتتفرق، وفعلا حدث اضطراب قليل، تحركت القافلة برهة بغير السمكة التى فى المقدمة ولكنها بعد مسافة قصيرة توقفت ومضت عشرات
آلاف زعانفها الصغيرة تلمع فى الماء الدافق بينهما صفوف السمك لا تتحرك. ولكن هذا لم يدم إلا برهة خاطفه إذ سرعان ما وجدت سمكة من الصف الثانى نندفع وتصبح فى المقدمة ثم تتبعها بقيه الصفوف.. ولم تلبث القافلة أن عادت إلى سيرها المتحمس.
وتملكنى العجب وأخذت أراقب القافلة ممن مكانى لعل شئ يحدث. ولكن لم يحدث شئ. كل ما حدث أن خاطرا أتانى وجعلنى أخوض فى ماء المصرف وأنقذ بقيه الرغيف من الغرق ومن أفواه بقية الأسماك، وما لبثت أن لحقت بالقافلة ورحت أكرر المحاولة مع السمكة الجديدة التى أصبحت فى المقدمة..
وبعد محاولات ومحاولات حدث نفس ما حدث للأول، فتخلت السمكة عن مكانها ودارت حول لقمة الخبز تقضم منها هى ومن أتبعها من أسماك الصفوف الأخيرة، واضطربت القافلة مرة أخرى، ولكن سمكه أخرى لم تلبث أن اندفعت وأصبحت فى المقدمة ولم تلبث بقية الصفوف أن تبعتها والقافلة قد عادت إلى سيرها وراحت تمضى بحماس إلى غايتها التى لا يعرفها أحد بنفس سرعتها المنتظمة التى لا تزيد ولا تنقص. ولم البث أنا الآخر أن نفضت يدى من المحاولات وعدت أهيم فى الحقول الواسعة الساكنة من جديد بحثا عن عش غراب
أو بيض يمام".