الجمعة، 10 أغسطس 2012

ليلةُ القدرِ والقلمُ البليغُ

في أيّ شيءٍ تعملُ ليلةُ القدرِ هذه ؟! 
أشياءُ كثيرةٌ تعملُ وراء المادة فينا . الفتوحاتُ المعنويَّةُ من الله لا تراها العيون , ولاتمسها الأيدي ! الأثرُ الطيب الذي تتركه الصلاة المنيبة في أرواحنا ليست مما يشاهد . 
إنك تقابل حبيباً فلا تدري أنفاسَكَ وهي تسطعُ في قلبه , ولا هو يدري ظلالَ نظراتِه في قلبك . 
لقد دخلت العشر من الليالي الفائضاتِ بالجمال والحياة والنشاط والحركة , ولا يعلم المسلمون من أمر ليلة القدر فيها إلا أنّ السماء تكون خالية من الشهب !

إن من معاني لفظة القدرالجلالَ والسمو والرفعة والمنزلة .
ولقد خصّ الله ليلة القدر بخصيصةٍ جليلةِ القدر .. بعيدة الشأو وهي أن القرآن الكريم تنزل فيها , فأحيا الله به الموات من القلوب, ونقّى به النفوس من العلائق والشوائب .. وفتح العرب به الدنيا , فرفع من شأنهم قال تعالى : ( لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم .. ) الآية سورة الأنبياء أي شرفكم ورفعتكم . (ولا شك أن نزول القرآن مناسبة جديرة بالحفاوة والعبادة والدعاء . فإن القرآن من كلام الله الذي اختتم به الوحي , وتمت به النعمة , ودخل به العرب التاريخ بعدما حملوا رسالته وصانوها من التحريف .. وغزارة الخير النازل في هذه الليلة يبدو في قوله تعالى : ( وما أدراك ليلة القدر .ليلة القدر خير من ألف شهر ) . محمد الغزالي رحمه الله نحو تفسير موضوعي . 
إنَّ صاحبَ القلمِ البليغ إنْ لم يستشرف في هذه الليالي مطالع النور في الآفاق , متأملاً في مرآة ذاته حقيقة نفسه , فيعمل على تجديد العهد مع الله ,والندم على مافرَطَ من تقصيرٍ وجهلٍ , ويعمل على استجلاء الحقائق , واستقصاء البراهين , وهو يقوم بأداء رسالته في الحياة فهو في عمى .
لقد أقسم الله تعالى بالقلم , ولم يقسم بالمال ولا بالجاه , والقلم نافذة من نوافذ الروح تشع على المعرفة , ووسيلة من وسائل الدعوة والنصح والارشاد , وسبب من أسباب ذيوع الحق ودحر الباطل وكشف الشبهات .. وأداة من أدوات تنوير الأمم , وسنادٌ من أسانيد القيم النبيلة والنفوس الكريمة .. ينفخ الكاتب فيه من روح الحق فلا يماري سلطانا , ولا يُجاملُ ظالما , ولا يُخاتلُ ولا يُداهنُ ولايُماري ولا يعزِّزُ من نفوذ طاغية .. يطلُّ من خلاله على الناس, فيرشدهم إلى العيش الحر النزيه .
إن صاحبَ القلمِ البليغ عليه أن يكون كالجندي مستعدا لأداء الواجب .. في أي وقت , فساحة النضال واحدة .. ذاك يناضل بالسنان وهذا يناضل باللسان . ولن يكون كذلك إلا إذا أمده الله بسلطان ٍ مهيبٍ من عنده !
ضاقت الدنيا برسول الله وقد قلَّ المال ,وعَظُمةِ التّبِعةُ , وفَقَدَ الكثيرَ من الأصحاب , وكادت قريشٌ , وقد ألّبت عليه يهود المدينة ,وأعراب الجزيرة من سفهاء وقطاع طرق وشعراء .. فقام حسان منه مقاما حسنا , فأكرمه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه .. وكان مما قاله في أبي سفيان حين هجا أبو سفيان رسول الله : 
عَدِمْنَا خيلنا إن لم تروها .. تثيرُ النقعَ موعدُها كداءُ 
يُنازعنَ الأعنَّة َ مصعداتٍ .. على أكتافها الأسَلُ الظماءُ
فـإن أعــــرضتمُ عنّـا اعتمرنــا .. وكـان الفتـحُ وانكشـف الغطاءُ
وإلا فــاصبروا لجــلادِ يــومٍ .. يُعــزُّ اللــهُ فيـه مـن يشـاءُ
ثم يتوجَّه بالخطاب مباشرة إلى زعيم قريش أبي سفيان بن حرب :
هجوتَ محمدا فأجبتُ عنه .. وعنـد اللـه فـي ذاك الجـزاءُ
فــإن أبي ووالـدهِ وعـرضي.. لعــرض محـمدٍ منكـم وقـاءُ
أتهجــوه ولسـت لـه بكـفءٍ ؟!.. فشــرُّكما لخيركمــا الفـداءُ
فيتهللُ وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفلقةٍ من القمر .. ويضع تحت حسان وسادة , ويتوجه إلى الله بكلتا يديه قائلا تبرقُ أساريره : ( اللهم أيد حسان بروح القدس مادام ينافح عن نبيه ) . وفي اعتقادي أن روح القدس التي أيد الله بها حسان , هي فضل من فضله, وقبس من نوره ,ونصير وظهير منه , يمنُّ بها على من يشاء من عباده , وليست محصورة أو مقتصرة أبداً على حسان وحده .. لطالما أن هذا القلمَ المحاربَ في هذه الزعازع والمعامع , يُنافح عن الحق كما فهمنا من منطوق دعاء نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم هنا : ( .. مادام يُنافح عن الحق ) .
ولعمْرُالحقِّ غايةً كهذه ليست بالأمر الهيّن .. لذا وجب التشمير والاستعداد, وأخذ العدة بحزم وجِد وانتباه ....
بقلم طارق السكري
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية