السبت، 19 يناير 2013

من كتاب (عبقرية عمر) للعقّاد


اليوم أعرض قدر مساحة مقال، من كتاب "عبقرية عمر"، الذي ألّفه العقاد في أحوال البأس والخطر، ما إن شرع في تحضير مراجعه والبدء في كتابة صفحاته الأولى حتى اضطرته ظروف الحرب العالمية الثانية إلى سفر مفاجئ إلى السودان، هناك كان الود الخالص والكرم السوداني المشهور، ما من مرجع طلبه من فضلاء السودان في المساء إلا وكان عنده في الصباح التالي.. في ظل هذه الأجواء
المليئة بالود المفعمة بالحب، عاش العقاد أروع أيامه في صحبة الخليفة العادل، وهو يكتب درة أعماله على الإطلاق.

كانت لديه مشكلة صغيرة؛ لقد تعوّد الناس من الكُتّاب المنصفين أن يقرنوا بين الثناء والملام، وأن ينقلبوا من الحسنات إلى السيئات؛ وإلا كانوا مظنة المغالاة والإعجاب المتحيز!! هكذا الكتابة الحديثة الكتّاب فيها يمدحون ويقدحون، ولا يعجبون إلا وهم متحفزون لملام!! ولكن ماذا يفعل العقاد مع رجل بحجم عمر بن الخطاب؟ يعايشه، يحادثه، يهيم به، يناجيه.. كانت الحقيقة ماثلة أمام عينيه: أعسر شيء أن تحاسب رجلاً كان أشد أعدائه لا يحاسبونه قدر ما يحاسب نفسه.. رجل قلّ أن يجوز عن القصد، وصعب أن يكسب أحد دعوى الإنصاف على حسابه؛ إلا أن يكسبها على حساب الحق.


بينه وبين نفسه، اعترف العقاد أنه لو وجد خطأ لكان أحب شيء إليه أن يحصيه ويسترسل فيه، وهو ضامن أن يرضي الناس، ويرضي الحقيقة؛ لكن بعد تفصيل وتمحيص لم يستطع إلا أن يقول: هذا الرجل العظيم أصعب من عرفت نقداً ومؤاخذة؛ بل ومن فريد مزاياه أن فرط التمحيص وفرط الإعجاب يلتقيان.

قال لنفسه: إن كنت قد أفدت شيئاً من مصاحبة عمر بن الخطاب في سيرته الزكية وأعماله البطولية؛ فلا يحرجنك أن تزكي عملاً جديراً بالتزكية، وإن زعم زاعم أنها المغالاة وفرط الإعجاب؛ لذلك لم يكن كتابه "عبقرية عمر" مجرد ترجمة لخليفة من عظماء الإسلام، أو سيرة بطل من أبطال الإنسانية؛ بل قُبلة حب، وتنهيدة عاشق، وتحية وفاء، في مائتي صفحة من الحب يقع الكتاب.

عمر بن الخطاب، رجل ليس كالرجال، عبقري ممتاز من الذين لا يعدون في الزمن الواحد بأكثر من الآحاد، قوي الجسد، بائن الطول، يمشي وكأنه راكب، تملأ هيبته القلوب، قلوب الذين يعرفونه، وقلوب الذين لا يعرفونه؛ هيبة من قوة النفس قبل أن تكون من قوة الجسد، تشهد العيون وتشهد القلوب أنه معدن العظمة، وقوة العبقرية، ومتانة التكوين.

عادل لأنه قوي، ومستقيم لأنه عادل، وحازم لأنه مستقيم، بطل إذا واجه الأنداد، رحيم إذا لقي الضعفاء، يرقّ للأرملة ذات العيال "يحمل الدقيق، وينفخ النار ويعد الطعام لصبيان يتضاغون من الجوع"، ويرحم يهودياً ضريراً؛ فيأمر له بما يكفيه من بيت المال، ويقول: والله ما أنصفناه إن أكلنا شبابه ثم خذلناه عند الكبر، يعطف على البهيم الذي لا يحسن الشكاية، ويضرب رجلاً؛ لأنه يُحمّل جمله ما لا يطيق، ويقول: لو عَثَرَت شاة بالعراق لخشيت أن يحاسب الله عمر.

قوي النفس بالغ في القوة النفسية، غيور على الحق، جياش العاطفة، شديد الشكيمة؛ فطن عليم خبايا النفوس، كثير المشاورة للصغار والكبار والرجال والنساء مشاورة من يعلم أن جوانب الآراء تتعدد، عاشره الدهاة فخبروه وحذروه؛ فكان كما يصف نفسه "لست بالخب (المخادع)؛ ولكن الخب لا يخدعني"، ذو فراسة تكشف الخفايا وتستوضح البواطن وتستخرج المعاني، ضرب من استيحاء الغيب واستنباط الأسرار بالنظر الثاقب، والرؤيا والمكاشفة، أو ما يسميه النفسيون اليوم بـ"التلباثي".. يخطب في المدينة؛ فيقطع الخطبة وينادي على قائد جيشه، فيسمعون صوته على بعد آلاف الأميال وينفّذون أمره.

عادل مفطور على العدل وإعطاء الحقوق، شديد في الله بلا هوادة، مهيب رائع المحضر؛ حتى في حضرة النبي الذي تتطامن عنده الجباه، وأولها جبهة عمر.. كان الأسود بن شريع ينشد النبي بعض الأماديح؛ إذ دخل عليه عمر؛ فأسكته النبي -والشاعر لا يعرفه- فصاح: واثكلاه، من هذا الذي أسكت له عند النبي؛ فقال النبي: هذا عمر، هذا رجل لا يحب الباطل.
******
عاش العقاد أروع أيامه في صحبة الخليفة العادل وهو يكتب درة أعماله على الإطلاق
وتلك قصة تُكْبِر عمر مرة، وتُكْبِر النبي مرات؛ فلا يسمعها السامع فيخطر له أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقبل باطلاً يأباه عمر؛ وإنما هو الإمام يطيق ما لا يطيقه المُريد، ويتّسع صدره لما تضيق به صدور تابعيه، الفارق بين نبي وخليفة، وبين إنسان عظيم ورجل عظيم؛ فالنبي لا يكون رجلاً عظيما وكفى؛ بل إنسان عظيم، أكبر من أن يلقى الضعف البشري لقاء الأنداد، وأعذر من أن يلقاه لقاء القضاة، يصبر عليه كما يصبر الرجل الناضج على هذر الصغار، كما وصفه الله تعالى: {بالمؤمنين رؤوف رحيم}.

ولأن مساحة المقال أوشكت على النفاذ اكتفى بعرض نظريته عن مفتاح الشخصية، يقول العقاد: إن لكل شخصية إنسانية مفتاحاً يسهّل -أو يصعب- الوصول إليه حسب اختلاف الشخصيات، مثل مفتاح البيت، إذا لم يكن معك صار البيت كالحصن المغلق؛ فإن كان معك تفتّحت لك أبوابه؛ هكذا النفس الإنسانية في أحوالها المختلفة، إذا عرفت مفتاحها نفذت إلى دخائلها، وعرفت أسرارها، وفهمت دوافعها، وكانت "طبيعة الجندي" هي مفتاح الشخصية العمرية بكل أبعادها.

صفاتها الشجاعة، والحزم والخشونة، والغيرة على الشرف، والنجدة والنخوة، والطاعة والنظام، وحب الإنجاز في حدود التبعات.. انظر إلى هذه الخصائص جميعها، هل تحتاج إلى التنقيب عنها في نفس عمر؟ كلها خصائص عمرية، واضحة غاية الوضوح.

انظر إليه وهو يصلي فلا يكبر بالناس حتى يسوي الصفوف، ويرى الناس مجتمعين في المسجد متفرقين؛ فيأمرهم أن يجتمعوا خلف قارئ واحد. انظر إليه كيف يحمل الدرة لينبّه المخالفين في الطريق ويذكّرهم بهيبة القانون.. انظر إليه وهو يرعى المراتب فينزل درجة من سلالم المنبر بعد أبي بكر؛ لأن الخليفة الأول أحق منه بالتقديم.

ذلك هو السمت العسكري بالفطرة التي فُطر عليها، وليس بالأسوة والتعليم.. يأمر بتعلّم الرمي والسباحة والفروسية والمصارعة، وكل رياضة يتدرب عليها الجندي، ويحب ما يحسن للجندي في بدنه وطعامه، ويقول: "إياكم والسمنة؛ فإنها عقلة" (أي قيد وعقال)، ويأمر بالجد؛ لأن "من كثر ضحكه قلّت هيبته"، يمشي شديد الوطء على الأرض، جهوري الصوت كما يمشي الجنود.

وإذا ارتقينا إلى شئون الحكم؛ فهو الذي دوّن الدواوين، وأحصى كل نفس في الدولة الإسلامية أدق إحصاء؛ فما من رجل أو امرأة أو طفل إلا عرف اسمه وحصته من بيت مال المسلمين، وما من مجاهد إلا عرف رتبته من السبق والتقديم.. وحتى قضاؤه -وهو ليس من خصائص الجندية- كان أشبه بالقضاء العسكري في حسمه وسرعته، هتفت امرأة باسم شاب وسيم، وتمنّت أن تشرب الخمر معه؛ فأرسل إليه فوجده أصبح الناس وجهاً؛ فحلق شعره فازداد حسناً؛ فأمره أن يعتم فزادته العمامة غواية؛ فقال: لا يسكن معي رجل تهتف به العوائق في خدورها، وزوّده بمال وأرسله إلى البصرة في تجارة تشغله عن النساء وتشغل النساء عنه.

وكان له في قضائه ذلك الحزم الذي يقطع اللجاجة كلما اشتجر الخلاف، كتب إليه أبو عبيدة أن جماعة من دمشق شربوا الخمر وقالوا: "إنا خُيّرنا فاخترنا، قال: هل أنتم منتهون؟ ولم يزد، وكانوا يزعمون أن الله تعالى ترك لهم حرية الاختيار في شرب الخمر أو تحريمه، لم يكن الخليفة مستعداً للجدال العقيم؛ فطلب منه أن يدعوهم على رؤوس الأشهاد ويسألهم سؤالاً لا يزيد ولا ينقص: أحلال الخمر أم حرام؟ فإن قالوا حرام فليجلدهم، وإن قالوا حلال فليضرب أعناقهم؛ فقالوا: بل حرام؛ فجلدوا ثم تابوا.

هكذا القضاء العمري في حسمه وحزمه ودلالته على الطبيعة العسكرية.

وحتى فكاهاته كانت لها طابع الجندية: منها مزحته المرعبة التي أطار بها لب الحطيئة ليكفّ عن هجاء المسلمين؛ فدعا بمثقاب وشفرة، يوهمه أنه سيقطع لسانه؛ فضجّ الحطيئة وتشفّع الحاضرون فيه، ولم يطلقه إلا بعد أن اشترى أعراض المسلمين منه بثلاثة آلاف درهم، وأخذ عليه عهداً لا يهجوَنَّ أحداً بعدها؛ فما هجا أحداً وعمر على قيد الحياة.
فطبيعة الجندي في "الفاروق" تامة متكاملة بأصولها وفروعها، هي أقرب مفتاح لتلك الشخصية العظيمة، يعيش في دنياه عيشة المجاهد؛ فيؤثر الزهد وعيشة الكفاف، وفي دينه كان بين يدي الله كوقفة الجندي الذي سيؤدي الحساب؛ ذلك هو الجندي في طبيعته المثلى، الفاروق الذي لهجت بعدله الأجيال.