الأحد، 9 سبتمبر 2012

الجاحظ والمؤدب


روى الجاحظ فقال :

دخلت يوما إحدى المدن فصادفني كُتّاب فيه مؤدّب على هيئة حسنة . فسلمت عليه وجلست عنده .
باحثته في القرآن فإذا هو ماهر . ثم فاتحته في شتّى العلوم من فقه ومنطق ونحو فإذا هو عالم بارع . ثم حاورته في كثير من أشعار العرب فإذا هو غاية في الأدب .
فكنت من حين لآخر أختلف إليه في كتّابه وأستمتع بحديثه .



قال الجاحظ :

فجئت يوما لزيارته على عادتي فإذا بالكتاب مغلق . فسألت عن الرجل فقيل لي : مات له أحد من أهله فحزن عليه وجلس في داره يقبل العزاء .


فقصدت بيته فإذا به يجلس مُطَأطِئَ الرأس شاردَ الذهنِ .
فقلت له : عظّم الله أجرَك كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ فعليك بالصبر .
ثم سألته : من المتوَفَّى أهو ابنُك ؟ قال : لا .
قلت : فوالدُك ؟ قال : لا . قلت : فزوجتُك قال : لا .
قلت : ومن هو منك إذَنْ ؟
قال : حبيبتي .

فقلت : سبحان الله النساءُ كثيرٌ وستَجدُ لك غيرَها .

قال : أتظنّ يا أبا عثمان أني رأيتُها ؟
قلت : وكيف عشقتَ مَنْ لم ترَ ؟

فتنهّد وقال : اعلَمْ يا سيدي أني كنت يوما جالسا بهذا المكان وأنظر من الطّاقِ إذ برجل يمشي في الشارع وينشد :

يا أمّ عَمْرٍو جزاكِِ الله مَكرُمةً === رُدّي عليّ فؤادي أيْنما كانَا
لا تأخذي بفؤادي تلعبين به === فكيف يلعب بالإنسانِ إنسانَا

فقلت في نفسي :
لو أن في الدنيا أحسن من أمِّ عمرو هذه ما قيل فيها هذا الشعرُ . فعشقتُها .

فلما كان منذ يومين مرّ ذلك الرجل بعينه وهو ينشد :

لقد ذهب الحمار بأمّ عمرو === فلا رجعتْ ولا رجع الحمارُ

فأيقنت أنها ماتت وأنا كما ترى .

فقلت : يا هذا إني كنت ألّفت في نوادركم معشرَ المعلمين كتابا ، وكنت حين صاحبتُك عزمت على تَقطيعِه . والآن صحّ عزمي على نشره . وأوّلُ ما أبدأ بك إن شاء الله .

عن كتاب المستطرف في كل فن مستظرف لشهاب الدين الأبشيهي