السبت، 17 نوفمبر 2012

حلو اللسان

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بالا يرفع الله بها درجات » .
والبال هو القلب ، وتأمل قوله « لا يُلقي لها بالا » ، أي أنها تخرج رغما عنه دون تفكير أو تدبر ودون أن يُمرَّها على قلبه ، ومع ذلك تخرج منه طيبة نقية ، لأن كل وعاء بما فيه ينضح ، وحديقة الورد لا يفوح منها غير شذى الورد ، إن حي القلب يتذوَّق كل كلمة بقلبه قبل النطق بها ، فإن كانت حلوة علم أن طعمها في الآخرة سيكون أحلى فأطلقها ، وإن كانت مُرَّة عرف أن طعمها في الآخرة أشد مرارة فسكت.


واسمع إلى طهارة لا تدانيها طهارة ، وقلب طهور كالماء الطهور طاهر ومطهِّر لما حوله من القلوب ، وهو قلب عبد الله بن عون الذي قال عنه خارجة بن مصعب : " صحبتُ عبدالله أربعا وعشرين سنة ، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة " .
فمهما استفزه الشيطان ببعض جنده وكافة حيله واجتمع عليه من أعوانه ما اجتمع ؛ فلن يفلحوا إذا أبدا ، فعن بكار بن محمد وابن قعنب قال : " كان ابن عون لا يغضب فإذا أغضبه الرجل قال : بارك الله فيك " .
ومن ذلك أن جاءه غلام له فقال : فقأت عين الناقة!! قال : بارك الله فيك. قال : قلت فقأت عينها فتقول بارك الله فيك!! قال : أقول .. أنت حر لوجه الله.
أي تربية؟! وأي صفاء ونقاء؟! وأي مجاهدة أورثت هذا السمو الراقي من سماحة النفس وطيب الكلم وروعة التقى حتى صار مضرب الأمثال ، ومنتهى غاية الصالحين ، وأسمى أمنيات المخلصين ؛ في عصره وغير عصره ، فعن معاذ بن معاذ قال :
" حدثني غير واحد من أصحاب يونس بن عبيد قال : إني لأعرف رجلا منذ عشرين سنة يتمنى أن يسلم له يوم من أيام ابن عون فما يقدر عليه ، وليس ذاك أن يسكت رجلٌ لا يتكلم ، ولكن يتكلم فيسلم كما يسلم ابن عون " .
لكنه ليس وحده في الميدان بل ينافسه في الحلبة أطهار كُثر ، منهم الفضيل الذي أراد أن يعطِّر ألسنتنا ويطيِّب كلامنا بطريقته الخاصة وأسلوبه المقنع فقال :
" حسناتك من عدوك أكثر منها من صديقك!! قيل : وكيف ذلك يا أبا علي؟! قال : إن صديقك إذا ذُكِرتَ بين يديه قال : عافاه الله ، وعدوك إذا ذُكِرت بين يديه يغتابك الليل والنهار ، وإنما يدفع المسكين حسناته إليك ، فلا ترضَ إذا ذُكِر بين يديك أن تقول : اللهم أهلكه .. لا ، بل ادعُ الله : اللهم أصلحه .. اللهم راجع به ، ويكون الله معطيك أجر ما دعوت به ، فإنه من قال لرجل : اللهم أهلكه ، فقد أعطى الشيطان سؤاله ، لأن الشيطان إنما يدور على هلاك الخلق " .
رحمة الله على أصحاب تلك القلوب ، وصدق فيها وصف من وصفها بقوله :
" إن من الرجال ما هو كالنسخة المخطوطة ؛ ربما كانت ناقصة أو مخرومة ، أو مسَّ الزيت أطرافها فأفسدها ، ولكنها أثمن وأغلى لأنها واحدة لا ثانية لها " .

الرسول قدوتنا
ولماذا نذهب بعيدا وبين أيدينا سيد القدوات نبينا صلى الله عليه وسلم الذي روى عنه جابر بن سمرة رضي الله عنه : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصمت قليل الضحك » ، وهو مع صمته كان إذا تكلم لا يُخرِج غير الرحيق والعبير والدواء والشفاء ، وبهذا وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مثل المؤمن مثل النحلة ؛ لا تأكل إلا طيبا ولا تضع إلا طيبا » .
قال ابن الأثير :
" ووجه المشابهة بينهما : حذق النحل وفطنته ، وقلة أذاه ، وحقارته ، ومنفعته ، وقنوعه ، وسعيه في الليل ، وتنزهه عن الأقذار ، وطيب أكله ، وأنه لا يأكل من كسب غيره ، ونحوله ، وطاعته لأميره " .
إنه قطعة ذهب نقية ليس فيها شائبة واحدة ولا ذرة غريبة من غير الذهب ، فلا زيف ولا خبث ولا تلوُّن أو تغير بل ثبات وطهارة تماما ، وليس فيها أدنى خبث تنفيه النار ، مصداق وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمن :
« ومثل المؤمن مثل سبيكة الذهب ؛ إن نُفِخت عليها احمرت ، وإن وُزِنت لم تنقص » .