الاثنين، 12 نوفمبر 2012

من كتاب الصداقة والصديق ،،،أبو حيّان التوحيدي

سُمع مني في وقت بمدينة السلام كلامٌ في الصداقة، والعشرة، والمؤاخاة، والألفة، وما يلحق بها من الرعاية، والحفاظ، والوفاء، والمساعدة، والنصيحة، والبذل،
 والمواساة، والجود، والتكرم، مما قد ارتفع رسمه بين الناس، وعفا أثره عند العام والخاص، وسُئلت إثباته ففعلت، ووصلت ذلك بجملةٍ مما قال أهل الفضل والحكمة، وأصحاب الديانة والمروءة؛ ليكون ذلك كلُّه رسالة تامة يمكن أن يستفاد منها في المعاش والمعاد.
***
قال أبو سليمان السجستاني: "فأما الملوك فقد جَلُّوا عن الصداقة؛ ولذلك لا تصح لهم أحكامها، ولا توفي بعهودها، وإنما أمورهم جارية على القدرة، والقهر، والهوى، والشائق، والاستحلاء، والاستخفاف.

وأما خدمهم وأولياؤهم فعلى غاية الشبه بهم، ونهاية المشاكلة لهم؛ لانتشابهم بهم، وانتسابهم إليهم، وولوع طورهم بما يصدر عنهم، ويَرِدُ عليهم.



وأما التُّنَّاء وأصحاب الضياع فليسوا من هذا الحديث في عير ولا نفير.

وأما التجار فكسب الدوانيق سدٌّ بينهم وبين كل مروءة، وحاجزٌ لهم عن كل ما يتعلق بالفتوة.

وأما أصحاب الدين والورع - فعلى قلتهم - فربما خلصت لهم الصداقة؛ لبنائهم إياها على التقوى، وتأسيسها على أحكام الحرج، وطلب سلامة العقبى.

وأما الكتَّاب وأهل العلم فإنهم إذا خلوا من التنافس، والتحاسد، والتماري، والتماحك - فربما صحت لهم الصداقة، وظهر منهم الوفاء، وذلك قليل، وهذا القليل من الأصل القليل.

وأما أصحاب المذاب والتطفيف فإنهم رجرجة بين الناس، لا محاسن لهم فتذكر، ولا مخازي فتنشر؛ ولذلك قيل لهم همج، ورعاع، وأوباش، وأوناش، ولفيف، وزعانف، وداصة، وسقاط، وأنذال، وغوغاء؛ لأنهم من دقَّة الهمم، وخساسة النفوس، ولؤم الطبائع على حال لا يجوز معها أن يكونوا في حومة المذكورين، وعصابة المشهورين.
***
كان سبب إنشاء هذه الرسالة في الصداقة والصديق أني ذكرت شيئاً منها لزيد بن رفاعة أبي الخير، فنماه إلى ابن سعدان الوزير أبي عبد الله سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة قبل تحمله أعباء الدولة، وتدبيره أمر الوزارة، حين كانت الأشغال خفيفة، والأحوال على إذلالها جارية، فقال لي ابن سعدان: قال لي زيد عنك كذا وكذا، قلت: قد كان ذاك، قال: فدوِّن هذا الكلام، وصِلْهُ بصلاته مما يصح عندك لمن تقدم؛ فإنَّ حديث الصديق حلو، ووصف الصاحب المساعد مطرب؛ فجمعت ما في هذه الرسالة، وشُغل عن ردِّ القول فيها، وأبطأت أنا عن تحريرها إلى أن كان من أمره ما كان.

فلما كان هذا الوقت - وهو رجب سنة أربعمائة - عثرت على المسودة وبيضتها على نحيلها، فإن راقتك فذاك الذي عزمتُ بنيِّتي، وحولي، واستخارتي، وإن تزحلقتُ عن ذلك فللعذر الذي سحبتُ ذيله، وأرسلت سيله.

***
واسترسال الكلام في هذا النمط شفاءٌ للصدر، وتخفيف من البُرَحاء، وانجياب للحرقة، واطراد للغيظ، وبرد للغليل، وتعليل للنفس، ولا بأس بإمرار كل ما لاءمه، ودخل في حوزته، وإن كان آخره لا يدرك، وغايته لا تملك.

***

قال صالح بن عبد القدوس:

بُنيَّ عليك بتقوى الإله * * * فإنَّ العواقب للمتَّقي

وإنك ما تأتِ من وجهه * * * تجدْ بابه غير مُستغلقِ

عدوك ذو العقل أبقى عليك * * * من الصاحب الجاهل الأخرق

ذو العقل يأتي جميل الأمور * * * ويعمد للأرشد الأوفقِ



فأما الذي قال في أصدقائه وجلسائه الخير، وأثنى عليهم الجميل، ووصف جدَّه بهم، ودلَّ على محبته لهم - فغريب!.



قال بعضهم:

أنتم سروري وأنتم مُشتكى حَزَني * * * وأنتم في سَواد الليل سُمَّاري

أنتم وإن بَعُدت عنَّا منازلكم * * * نوازلٌ بين أسراري وتذكاري

فإن تكلمتُ لم أَلْفِظْ بغيركُمُ * * * وإن سكتُّ فأنتم عَقْدُ إضماري

الله جارُكُم مما أحاذرُه فيكم * * * وحبي لكم من هجركم جاري