ذكر ابن العربي في أحكام القرآن، قصة لطيفة بليغة فيها أدب عظيم.
|
حيث قال :
|
أخبرني
محمد بن قاسم العثماني غير مرة : وصلت الفسطاط مرة ، فجئت مجلس
الشيخ أبي الفضل الجوهري ، وحضرت كلامه على الناس ، فكان مما قال في
أول مجلس جلست إليه : إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وظاهر وآلى ،
فلما خرج تبعته حتى بلغت معه إلى منزله في جماعة ، فجلس معنا في
الدهليز ، وعرفهم أمري ، فإنه رأى إشارة الغربة ولم يعرف الشخص قبل
ذلك في الواردين عليه ، فلما انفض عنه أكثرهم قال لي : أراك غريبا ،
هل لك من كلام ؟ قلت : نعم . قال لجلسائه : أفرجوا له عن كلامه .
فقاموا وبقيت وحدي معه . فقلت له : حضرت المجلس اليوم متبركا بك ،
وسمعتك تقول : آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت ، وطلق رسول
الله صلى الله عليه وسلم وصدقت .
|
|
وقلت
: وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لم يكن ، ولا يصح أن يكون
; لأن الظهار منكر من القول وزور ; وذلك لا يجوز أن يقع من النبي
صلى الله عليه وسلم . فضمني إلى نفسه وقبل رأسي ، وقال لي : أنا
تائب من ذلك ، جزاك الله عني من معلم خيرا . ثم انقلبت عنه ، وبكرت
إلى مجلسه في اليوم الثاني ، فألفيته قد سبقني إلى الجامع ، وجلس على
المنبر ، فلما دخلت من باب الجامع ورآني نادى بأعلى صوته : مرحبا
بمعلمي ; أفسحوا لمعلمي ، فتطاولت الأعناق إلي ، وحدقت الأبصار نحوي ،
وتعرفني : يا أبا بكر يشير إلى عظيم حيائه ، فإنه كان إذا سلم عليه
أحد أو فاجأه خجل لعظيم حيائه ، واحمر حتى كأن وجهه طلي بجلنار قال :
وتبادر الناس إلي يرفعونني على الأيدي ويتدافعوني حتى بلغت المنبر ،
وأنا لعظم الحياء لا أعرف في أي بقعة أنا من الأرض ، والجامع غاص
بأهله ، وأسال الحياء بدني عرقا ، وأقبل الشيخ على الخلق ، فقال لهم :
أنا معلمكم ، وهذا معلمي ; لما كان بالأمس قلت لكم : آلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وطلق ، وظاهر ; فما كان أحد منكم فقه عني ولا رد
علي ، فاتبعني إلى منزلي ، وقال لي كذا وكذا ; وأعاد ما جرى بيني
وبينه ، وأنا تائب عن قولي بالأمس ، وراجع عنه إلى الحق ; فمن سمعه
ممن حضر فلا يعول عليه . ومن غاب فليبلغه من حضر ; فجزاه الله خيرا ;
وجعل يحفل في الدعاء ، والخلق يؤمنون .
|
|
فانظروا
رحمكم الله إلى هذا الدين المتين ، والاعتراف بالعلم لأهله على
رءوس الملإ من رجل ظهرت رياسته ، واشتهرت نفاسته ، لغريب مجهول العين
لا يعرف من ولا من أين ، فاقتدوا به ترشدوا .
|