الأربعاء، 20 فبراير 2013

أحسن متون الأحاديث للحفظ



رقم الفتوى:3 / 3 / 304

وسُئلَ غَفَرَ اللهُ ذَنْبَهُ وسَتَرَ عَيْبَه: ما هِي أحسنُ مُتُونِ الأحاديثِ التي يُنْصَحُ الطالِبُ بِحِفْظِها، وهل الأفْضلُ لمَنْ أرادَ حفظَ صحيحِ البخارِيِّ أنْ يَحْفظَ المُتونَ فقط؛ أم يَضُمَّ إليها حِفْظَ الأسانِيدِ أيضاً؟.
فأجاب: الحمدُ لله؛ وأستغْفِرُ اللهَ؛ أما بعد:
فَيَنْبَغِي أنْ يُعْلَمَ أولاً أنَّ العلُومَ أرزاقٌ وقِسْمَةٌ يُعطِي الله تَبارَكَ وتعالَى مِنها ما شاءَ لِمَن شاءَ مِن عَباده؛ كما دلَّ عليهِ قولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم في حديثِ مُعاوِيَةَ رَضيَ اللهُ عنهُ عندَ البخارِيِّ وغَيْرِه: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِى...)، ورُبَّ رَجُلٍ فَتِحَ لهُ في بابٍ ولَمْ يُفْتَحْ لهُ في غَيرِه كما قالَ الإمامُ مالكٌ للَّيْثِ بن سَعْدٍ في كِتابِهِ إليه، ورُبُّ رَجُلٍ كانَ أقْدَرَ على الحفظِ مِن غَيرِهِ، ورُبَّ فقِيهٍ لا يَحْفَظ، وربَّ رجلٍ جُمِعَتْ له النعمتانِ، والله يَخلقُ ما يشاءُ ويَختار.


ثُمَّ يَدْخُلُ في هذا ما جَرَتْ بِهِ سُنَّةُ المشايِخِ والطلَبَةِ في البَلْدَةِ التي يَقْصِدُها الطالِبُ بالطلب، فَحَيثُ كانَ المَشْهُورُ اعْتِمادَ مُوطّأ مالكٍ مَثلاً؛ كانَ حِفْظُ الموطّأ أولَى، لِيَجْتَمِعَ للطالِبِ حِفْظُهُ وقِراءَتُهُ على المشايخِ، ومِثْلُهُ يُقالُ في غَيْرِهِ من الكُتُب.
وما وَراءَ ذلكَ فالطالِبُ وما يَرْغَب، فَمَنْ كانِتْ بِهِ هِمَّةٌ لِحْفِظِ أسانِيدِ البُخارِيِّ فَلْيَفْعل؛ فإنهُ لا أنْجحَ في بُلُوغِ المَقْصُودِ بعدَ عَون اللهِ تعالى وإخلاصِ الوَجْهِ لهُ سُبحانَه مِنْ مُوافَقَةِ الرغْبَةِ لذلك، وعَلَى مَنْ وَلِيَ مِن أهلِ العِلْمِ أمرَ الطلابِ أنْ يَرْعَى ذلكَ مِنْ أحوالِهم.
فإن استوى الأمرانِ عنْدَ الطالِبِ فالذي أختارُهُ لهُ أنْ يَعْتَنِيَ بِحْفْظِ المُتُونِ أولا؛ ذلكَ أنَّ حِفْظَ الأسانِيدِ يَسْتَغْرِقُ كَثيراً من الجهدِ والوقْتِ؛ ولَوْ أنهُ أنْفَقَ وقتَ حْفْظِها في حِفْظِ مُتُونِ الأحاديثِ لصَارَ ما يَحْفَظُهُ مِن المُتُونِ الحديثِيَّةِ ضِعْفَ أحاديثِ الصحيحِ مثلاً، والطالِبُ كُلَّما ازْدادَ مِن حِفْظِ المُتُونِ كانَ أملأَ يَداً عِنْدَ الحاجَةِ إلى الاسْتِدْلالِ وأقْدَرَ علَيه.
وزِدْ عَلى هذا أنَّ الرجُوعَ إلى الأسانِيدِ والنظَرَ فيها لمْ يَعُدْ عَسراً بِحَمْدِ اللهِ تعالى؛ خاصةً معَ وجُودِ الفهارِسِ والكُتُبِ المُيَسِّرَةِ لِهَذا الفَنِّ، ثُمَّ مَعَ ما مَنَّ الله تعالَى بِهِ مِن وسائلِ البَحْثِ المُخْتَرَعَةِ على غَيْرِ مِثالٍ سَبَق!؛ كالحاسُوبِ الآلِيِّ؛ وما يَحْويِهِ من المَكْتبات.
نَعَمْ لِيسَ يُغْنِي هذا عنْ ضبْطِ أسماءِ الرجالِ عَلى الشيُوخِ ومن كُتُبِ الفنّ، وعَنْ إدْمانِ النظَرِ في كُتُبِ الجَرْحِ والتَعْديلِ؛ وعَنِ المِرانِ علَى أيْدِي المُتَمَرِّسِينَ مِن العُلَماءِ فِي مَعْرِفَةِ العِلَل؛ لِيَحْصُلَ للطالِبِ بِذلكَ القدْرَةُ على تَمْييزِ صَحيحِ الحديثِ من سَقِيمَه؛ ويَعْرِفَ المَقْبُولَ من المَرْدُود.
ثمَّ لا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ حفظُ الأسانِيدِ شاغِلاً عَنْ تَحْصيلِ ما لا يَسَعُ الطالِبَ جَهْلُهُ مِنْ عُلُومِ الآلِة؛ والتي لا يَحْصُلُ للطالِب التمكُّنُ من العِلْمِ إلا بِها، وقَدْ كَثُرَ هذا في زَمانِنَا وذلكَ مِن أعْظَمِ آفاتِ الطلب؛ حتى رَأيْتُ مِن الطلَبَةِ مَنْ اشتَغَلَ بالتصْحِيحِ والتضْعِيفِ مُنْذُ أنْ هُدِيَ إلى الطلَبِ مُدَّةَ سَبْعِ سِنين!؛ ومَعَ ذلكَ لو سَألْتَهُ عنْ مَسْألَةٍ فِي فِقْهِ الطهارَةِ أو الصلاةِ ما دَرى ما يَقُول!؛ دعْ عَنكَ النَّحْوَ وأصُولَ الفِقْهِ وغيرَها مِن عُلُوم الآلَة، حَتَّى سَمْعْتُ مِنْهُمْ مَنْ يَفْتَخِرُ بِأنَّ شَيْخَهُ (فُلاناً) لَمْ يَقْرأْ مِن النحْوِ غَيرَ التُّحْفَةِ السنِيَّة!، وذَكَرَ آخَرُ أنَّ شَيْخَهُ ما تَعَلَّمَ النحْوَ ولا يَدْرِيه!.
نَعَمْ قِدْ يَكُونُ الرجُلُ حاملاً للحدِيثِ وليسَ فقيهاً كما دلَّ عليهِ قولُهُ عليهِ الصلاةُ والسلام: فَرُبَّ حامِلِ فقْهٍ لا فِقْهَ له، لكن لا يَنْبَغِي لِمِثْلِ هذا أنْ يَتَطاوَلَ إلى ما لا يُحْسِنُ؛ وإلا كانَ قائلاً في دينِ اللهِ تعالى بغيرِ عِلْم.
وهذا النهْجُ عافاكَ اللهُ أورَثَنا مِنَ النتائجِ ما لا يُحْمَد؛ حتى رأيْنا مِن صِغارِ الطلَبَةِ هؤلاءِ مَنْ يَتَطاوَلُ عَلى الفحُولِ مِن أئِمَّةِ العِلْمِ فَيْنْتَقِدُ البُخارِيَّ ومُسْلِماً ويُضَعِّفُ ما صَحَّحاه؛ ويَصَحِّحُ ما ضَعَّفاهُ!؛ ولَو سَألْتَهُ عما قَرأَ مِنْ كُتُبِ الفنِّ*-؛ ذكَرَ لكَ نُخْبَةَ الفِكَرِ والباعِثَ الحثيث؛ ويَرْجِعُ فِي التحْقِيقِ إلى التقْرِيبِ وأصْلِه!، ثُمَّ هُو مَعَ ذلكَ يُلْغِي جُهُودَ الأئِمَّةِ رَحِمَهُمُ اللهُ بِبَعْضِ الكَلِم، ويُنَحِّي أصُولَ الفِقْهِ جانِباً بِجَرَّةِ قَلَمْ!، ولَعَمْرُ اللهِ إنها لَفاقِرَةٌ عَلَى العُلَماءِ أنْ يَتَدارَكُوها، نَعَمْ كُلُّ أحَدٍ بعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ يُخْطئُ ويُصيب؛ ويُؤْخَذُ مِنْهُ ويُتْرك؛ لكنْ شَتانَ شَتانَ بَينَ البقْلِ القِصارِ والنخْلِ الطوال:
وابْنُ اللبُونِ إذَا ما لُزَّ فِي قَرَنٍ لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القناعِيسِ
وأحْسَنُ ما يَبْدَأُ الطالِبُ بِحْفْظِهِ مِن مُتونِ الأحاديث المُتُونُ الجامِعَةُ لأحاديثِ الأحكامِ، وأعْلاها تَحْرِيراً وجَمْعاً (بُلُوغُ المرامِ) للحافِظِ ابنِ حجَرٍ رَحِمَهُ الله؛ وحَسبُكُ قَوْلُ مُصَنِّفِهِ فيه: وَحَرَّرْتُهُ تَحْرِيراً بالِغاً لِيَكُونَ مِن يَحْفَظُهُ نابِغَةً بَينَ أقرانِه!، وهُوَ كِتابٌ مُبارَكٌ كَتَبَ اللهُ تعالَى لهُ القُبُولَ بَينَ العُلماءِ والطلَبَة؛ فأقْبَلُُوا عَلى حِفْظِهِ وشَرْحِهِ، ولهُ شُروحٌ مَعْروفَةٌ مِشهُورَةٌ أرى أنها لمْ تُوِّفِّهِ حقَّه، ولَو أنَّ الحافِظَ بِما أُوتِيَ مِنْ سَعَةٍ في العِلْمِ رَحِمَهُ اللهُ صنفَ شَرْحاً علَيْهِ لكانَ آيةً!، وكلُّ شيءٍ عِنْدَ اللهِ تعالَى بِمْقْدار.
فإنْ رَغِبَ في التوسُّعِ بَعْدَ هذا فليَضُمَّ إلَيْها ما لَمْ يذكُرْهُ الحافِظُ منْ أحاديثِ المُنْتَقَى للمَجْدِ ابنِ تَيْمِيةَ رَحِمَهُ الله، ثَمَّ يَنْظُرُ في سُنَنِ أبي داودَ فَيَضُمُّ مِنْهُ إلى السابِقَينِ ما لَيْسَ فِيهِما، وإنما بَدَأتُ بِهذه الكُتُبِ لأنّها جَمَعَتْ أحاديثَ الأحكامِ خاصَّةً، والطالِبُ يَحْتاجُ أولاً إلى مَعْرِفَةِ أحاديثِ الحلالِ والحرام؛ وإلا فَمَنْ وُفِّقَ فِي الحِفْظِ ويُسِّرَ لهُ، فليعْكِفْ بعدَ ذلكَ على صحيحِ البخارِيِّ فإنهُ لا مَثيلَ له، وكُلما ازدادَ من الخيرِ فهو نُورٌ وَخَيْرٌ.
واعْلَمْ أنَّ حفظَ الحديثِ مَيْسُورٌ إن شاءَ اللهُ تعالى، حتى إنَّ الطالِبَ لو أدْمَنَ النظَرَ في كُتُبِ الحديثِ حَفِظَ كَثيراً مِنْها مَعَ الوقْتِ دُونَ كَبِيرِ جُهْدٍ مِنه!؛ وأنْتَ تَرى كَثيراً من الطلَبَةِ بلْ من العامَّةِ إذا قُرِئَ الحديثُ عَلَيهِ مَرَّةً واحدَةً أعادَهُ بلَفْظِهِ أو يَكاد؛ وذلكَ من فضلِ اللهِ تعالى الذي يَسَّرَ شَرِيعَتَهُ لِعبادِه، لكن لا يُفُوتَنَّكَ أنَّ إتْقانَ الحِفْظِ أعظَمُ أجراً؛ ألا تَرى قولَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: {فأَدَّاها كَما سَمِعَها}!؛ والأئمَّةُ رَحِمَهُمُ اللهُ وإن قالُوا بِجَوازِ الروايَةِ بالمعْنى إلاَّ أنّهم اتفَقُوا على عُلُوِّ مَرْتِبَةِ الروايَةِ بِحُرُوفِها؛ وأنهها مقدَّمَةٌ على الروايَةِ بالمَعْنى.
وفق الله المسلمينَ إلى ما يحبُّهُ ويَرْضاهُ؛ والحمدُ لله أولا وآخرا.

نقلا عن موقع فضيلة الشيخ أبي الوليد الغزي الأنصاري :
aknafansari.com
كان الله له
وكَتَبَهُ: أبو الوليدِ الغزيُّ الأنصاريُّ