الثلاثاء، 19 فبراير 2013

حكم الدعاء للسلاطين في الخطب

ما قولكم؛ في الترضِّي على الخلفاء الراشدين، وبقية العشرة، والدعاء لسلطان البلد في الخطب - كخطبة الجمعة أو العيدين أو الخسوفين أو الاستسقاء - وحقيقة أنه جارٍ من عهد سيدنا عمر رضي الله عنه أم لا؟


* * *
الجواب:

الترضي عن الخلفاء الراشدين وسائر العشرة من الصحابة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم؛ حسن، وقد شرع الله لنا أن ندعو لأنفسنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان - وهؤلاء العشرة خيارهم -

ولا ينبغي أن يلتزم دائماً، لئلا يظن العوام أنه واجب.

وإذا كان ملتزماً في بلد وخشي من سوء تأثير تركه في العامة؛ فينبغي للخطيب أن يتقي سوء هذا التأثير بأن يذكر على المنبر؛ أن هذا دعاء مستحب على إطلاقه ولم يطلبه الشرع في الخطبة، فهو ليس من أركانها ولا من سننها، وإلا بقي مواظباً عليه.

وكذلك الدعاء لولي أمر المسلمين أو لأولياء أمورهم.

ويراعَى فيه؛ أن لا يكون متضمناً لمنكر - كإقرار الظلم أو الفسق ومدح أهلهما - ولا لألفاظ من الإطراء في المدح والتعظيم الذي لا يليق أن يوجَّه إلا إلى الله تعالى.

وأما الدعاء للسلطان المعين باسمه؛ فهو بدعة، استحسنها بعض المؤلفين بشرطها.

قال الإمام النووي في "المجموع" - أي شرح "المهذب" -: (وأما الدعاء للسلطان؛ فاتفق أصحابنا على أنه لا يجب ولا يستحب، وظاهر كلام المصنف وغيره؛ أنه بدعة، إما مكروه وإما خلاف الأولى، هذا إذا دعا له بعينه.

فأما الدعاء لأئمة المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح والإعانة على الحق والقيام بالعدل ونحو ذلك ولجيوش الإسلام؛ فمستحب بالاتفاق.

والمختار؛ أنه لا بأس بالدعاء للسلطان بعينه إذا لم يكن مجازفة في وصفه، والله أعلم) اهـ.

وقد صرح بعض الفقهاء؛ بأن ما يجب من الإنصات عند إلقاء خطبة الجمعة يستثنى منه الإنصات وقت الدعاء للسلاطين، وخاصة الظلمة والفساق منهم.

وقد بينا هذا في مواضع لا أذكر منها الآن إلا ما في المجلد التاسع من "المنار" [سنة 1324 هـ، الموافق 1906م]، ونقلنا هنالك عبارة من شرح "الإحياء" للزبيدي.

نعيدها هنا مع ما قبلها مما قاله في الدعاء للخلفاء والصحابة، وهو: (وينبغي أن تكون الخطبة الثانية هكذا؛ الحمد لله نحمده ونستعينه.... إلخ، لأن هذا هو الثانية التي كان يخطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الخلفاء الراشدين عموماً والعمين والسبطين وأمهما وجدتهما؛ مستحسن، وإن احتاج إلى ذكر الأربعة الخلفاء على الخصوص بأن كان في بلد فيه الرافضة؛ فلا بأس أن يطيل بذكرهم كل واحد باسمه مع الأوصاف اللائقة بهم، ثم يعطف عليهم بالباقين من العشرة.

ومما يكره للخطيب؛ المجازفة في أوصاف السلاطين بالدعاء لهم.

فأما أصل الدعاء للسلطان؛ فقد ذكر صاحب "المهذب" وغيره؛ أنه مكروه، والاختيار؛ أنه لا بأس به إذا لم يكن فيه مجازفة في وصفه ولا نحو ذلك، فإنه يستحب الدعاء بصلاح ولاة الأمر، والآن صار واجباً؛ لأنه مأمور به من السلطان).

هذا ما ذكره عن فقهاء الشافعية، وهو معنى ما تقدم عن" المجموع"، إلا قوله الأخير بوجوبه؛ فلم أره في كتبهم.

ثم أورد جملة مما قاله علماء مذهبه الحنفية، فقال: (وكرهوا الإطناب في مدح الجائرين من الملوك، بأن يصفه عادلاً وهو ظالم، أو يصفه بالغازي وهو لم يوجف على العدو بخيل ولا ركاب، ولكن مطلق الدعاء لهم بالصلاح؛ لا بأس به، وكذا لا بأس بأن يصفه ببعض الألقاب اللائقة بحاله، فإن تعظيم الملوك؛ شعار أهل الإسلام [1]، وفيه إرهاب على الأعداء [2].

وقد اتفق أن الملك الظاهر بيبرس رحمه الله تعالى لما وصل الشام وحضر لصلاة الجمعة، أبدع الخطيب بألفاظ حسنة يشير بها إلى مدح السلطان وأطنب فيه، فلما فرغ من صلاته أنكر عليه وقال - مع كونه تركيًّا -: "ما لهذا الخطيب يقول في خطبته السلطان... السلطان؟! ليس شرط الخطبة هكذا؟!"، وأمر به أن يُضرب بالمقارع، فتشفَّع له الحاضرون، هذا مع كمال علم الخطيب وصلاحه وورعه، فما خلص إلا بعد الجهد الشديد.

واتفق مثل هذا لبعض أمراء مصر في زماننا لما صلى الجمعة في أحد جوامع مصر، وكان مغروراً بدولته مستبدًّا برأيه، وربما نازعته نفسه في خلافه على مولانا السلطان - نصره الله تعالى - فأطنب الخطيب في مدحه بعد أن ذكر اسمه بعد اسم السلطان، فلما فرغ من صلاته؛ أمر بضرب ذلك الخطيب وإهانته ونفيه عن مصر إلى بعض القرى.

فهذا وأمثال ذلك؛ ينفي للخطباء أن يلتمسوا سخط الله تعالى برضا الناس، فإن ذلك موجب لسخط الله تعالى والمقت الأبدي، نسأل الله العفو منه، آمين) اهـ.

مجلة المنار، المحرم/1348 هـ

محمد  رشيد رضا



[1] هذه دعوى باطلة، لأن زمن التشريع والأحكام الدينية - ولا سيما الشعائر - لم يكن فيه شيء من ذلك، بل لم يكن فيه ملوك مفتونون بالتعظيم.

[2] وهذا باطل أيضاً، فإن أعداءنا يحتقروننا بشدة إطرائنا وتذللنا للسلاطين.